2012/10/24

ليبيا.. بين إخضاع الدولة أو الإجهاز عليها!!




توحد معظم الليبيين بمختلف مشاربهم أثناء الصراع الدموي مع القذافي في (ربيع ليبيا) الذي اتسم بالعنف والقسوة.. هذه الحالة من الاصطفاف ضد نظام القذافي باعتباره العقبة التي سنحت الفرصة فجأة لإزاحتها أدت إلى تشكيل سلطة بديلة وحيدة بسهولة أثناء الصراع من دون ظهور تناقضات وأحداث عنيفة في معسكر المجلس الوطني الانتقالي باستثناء الاغتيال الغامض الذي راح ضحيته عبد الفتاح يونس الشخصية العسكرية البارزة..

حالة الانسجام هذه والتي كانت مصدر تفاؤل في الداخل والخارج لم تستطع الصمود حتى النهاية، وسرعان ما بدأت تظهر عليها بوضوح ظواهر التفكك والتمزق  بعد سقوط النظام وانهياره.
بالطبع ظهور التناقضات القبلية والجهوية، ومظاهر الصراع السياسي بمختلف أشكاله لم تكن طارئة، بل هي برزت إلى السطح بعد حسم الصراع مع القذافي لتعكس واقع المجتمع الليبي الحقيقي بعد انزياح السلطة التي قمعت كل أشكال التنوع القبلي والثقافي والايديولوجي وحجزته خلف خطابها السياسي المهيمن.. مجريات الحرب بخاصة في جبهة مصراتة تركت جروحا غائرة في النسيج الاجتماعي الذي تعرض للتفكك والتلف، مثله مثل مؤسسات الدولة ومقدراتها بالإضافة إلى إيقاظها عداوات قديمة بين  قبائل كبيرة ومؤثرة.. القذافي لم يكن بعيدا عما حدث من استقطاب قبلي ونفخ في الروح العصبية إذ لعب أثناء الحرب وطيلة فترة حكمه الطويلة على هذا الوتر الحساس، فبنى تحالفات قبلية ووطد حكمه بالاتكأ على ما يمكن وصفه بالفرز القبلي، وحين استشعر النهاية بدأ ينادي القبائل التي كان يعتقد انها مدينة له لنصرته بأسمائها، كما حاول باستماتة تحرض بعضها على البعض من خلال ما رفعه من شعارات عن القبائل الشريفة والوطنية وأضدادها..
بعد انتهاء المعركة مع نظام القذافي بدأت معركة أخرى لا تزال متواصلة سياسية وعسكرية على السلطة وعلى الدولة. انخرطت في هذا الصراع بدرجات متفاوتة القبائل والمدن والأقاليم والتنظيمات الإسلامية المختلفة، إضافة إلى الأحزاب التي ولدت مع موت النظام، وتكون أغلبها على قواعد مناطقية أو دينية.
الصراع المحتدم الآن على السلطة مباشرة وعلى هامشها  متعدد المستويات تظهر أهم تجلياته في التالي:
1-  النزاعات القبلية المتفجرة بين الحين والآخر في غرب ليبيا ووسطها وجنوبها.
2-  الصراعات بين التيارات الإسلامية والعلمانيين..
3-  عمليات الاغتيال التي تستهف الضباط والعسكريين المحترفين في شرق ليبيا.
4-  الصراعات القبلية والايديولوجية داخل المؤتمر الوطني العام. 
5-  التظاهرات والاحتجاجات  الشعبية المتنوعة.
في معظم الصراعات السياسية والعسكرية القائمة في ليبيا يؤدي العامل القبلي  دورا أساسيا  سواء في إشعال النزاع أو في محاولة اطفائه.. مفارقة الحالة الليبية تكمن في عودة  المرجعية السياسية عشرات السنين إلى الوراء إلى ما قبل تكون الدولة، إذ انبعثت من جديد (سلطات) القبائل وصار لها نفوذ كبير في مناطق عدة.. هذه الحالة من التصدع والانهيار للدولة ومؤسساتها، وعودة النفوذ القبلي على المستوى الإداري المحلي والسياسي العام، وجد انعكاسه في دعوة الفدراليين إلى إعادة العمل بدستور عام 1953 المؤسس للدولة الليبية.. 
الغطاء القبلي طال كل شيء في ليبيا بعد أن فرضت الوقائع وضعا صارت الدولة تؤدي فيه أدوارا شكلية ظهرت من خلالها، كما لوكانت مجلسا عشائريا، يتعامل مع كيانات مستقلة بأسلوب تطييب الخواطر واسداء النصح، والتنسيق عند اتخاذ القرارات مع مراكز القوى القبلية المهيمنة على الأرض..
التيار الإسلامي ممثل في الإخوان المسلمين اللاعب الثاني الذي  يتنافس مع  القبائل على السلطة الفعلية في ليبيا.. الإخوان المسلمين يعتبرون أنفسهم الورثة (الشرعيين) لنظام القذافي لأسباب عدة ذاتية وموضوعية ولإعتقادهم أن فرصة وصولهم إلى السلطة أصبحت أمرا لا لبس فيه بسابقة الجماعة الأم في مصر. إشكالية تنظيم الإخوان في ليبيا تمثلت في فشله في نيل (الشرعية الديموقراطية) في أول اختبار ديموقاطي في انتخابات المؤتمر الوطني العام. هذا الفشل بلا شك يدفع التنظيم وحزبه الرديف إلى التمسك أكثر بكتائبه الأمنية والقتالية لتعزيز موقفه في مواجهة النفوذ القبلي والأعداء الآخرين المحتملين.. الإسلاميون سارعوا في وقت مبكر إلى  مهاجمة الليبراليين وتشويههم واعتبارهم نقيضا لما يمثلونه من قيم دينية وسياسية. هذا المدخل أتاح  فرصة لتشتيت قواهم وإرهابهم وإجبارهم، في مفارقة تاريخية،  على ممارسة (التقية) بمحاكاة دعاوي الإسلام السياسي، والإعلان عن تبني الشريعة الإسلامية في برامجهم الانتخابية مصدرا أساسيا، وفيما بعد وحيدا للقوانين..
العامة وبخاصة في المدن الكبيرة فاجأت الجميع في انتخابات ليبيا، ولم تردعها الدعايات ولا  فتاوي الإسلاميين الرسمية ضد الليبراليين، فنالوا الأغلبية في مفاجأة لم تقلب موازين القوى بسبب ما أتاحه نظام المؤتمر الوطني العام من فرص واسعة للاستقطاب وتشتيت الأصوات.
عجز الإسلاميين غير المتوقع في حسم المعركة سريعا مع الليبراليين أدى إلى ظهور بوادر لتشكيل تكتلات وتحالفات مع قوى قبلية وجهوية لجأ الفريقان إلى تعزيز موقفهما من خلالها.. الليبراليون اتخذوا موقفا  يمكن وصفه ( بالمتعاطف) مع دعاة الفدرالية في شرق ليبيا، في حين سارع الإسلاميون بمختلف تنظيماتهم إلى محاربتهم. معسكر الإسلاميين السياسي أي الإخوان  بدوره سارع إلى التحالف مع عدد من المدن المؤثرة (المنتصرة) وبخاصة داخل أروقة المؤتمر الوطني العام لمواجهة الليبراليين.
الوهن الذي أصاب مؤسسات الدولة الجديدة، وانعكس على أدائها سلبا بعد انتصار الثورة، جزء كبير منه كان متعمدا.. بالطبع ليس للدولة في ليبيا كما في مصر على سسبيل المثال، مؤسسات عريقة، إذ أن القذافي فكك الدولة التي سرق سلطتها في عام 1969  وأقام عليها تجاربه المرتحلة والمرتجلة، ولذلك يمكننا القول إن القذافي استبدل مؤسسات المملكة الليبية بخيمته التي جسّد من خلالها استبداده ونرجسيته..
مراكز قوى عديدة لها مكتسبات ونفوذ على الأرض ساهمت في إضعاف مؤسسات الدولة الانتقالية خوفا من ضياع (غنائمها). مراكز القوى هذه تحديدا قبلية وإسلامية.. الإسلاميون بشقيهم السياسي و(المقاتل) يرفضون بشكل قاطع تكوين مؤسسات دفاعية وأمنية تقليدية في المرحلة الراهنة بذريعة الخوف من عودة سياسات الملاحقة والقمع كما في العهد السابق.. الإخوان المسلمين من موقع تواجدهم المؤثر في المجلس الانتقالي، وفيما بعد في الحكومة الانتقالية أنشؤوا مؤسسات أمنية لملء الفراغ ساهم وجودها إضافة لتدخلات أخرى، في إعاقة تكوين مؤسسات أمنية عامة. الإخوان رعوا أيضا كتائب مسلحة منتشرة في أكثر من مدينة كبيرة يقودها مدنيون إسلاميون كانوا أعضاء في الجماعة الإسلامية المقاتلة.. هذه الكتائب مُنحت الشرعية بانضوائها تحت لواء وزارة الدفاع بكامل عدتها وعتادها وهيئاتها الشرعية!!
الوجه الآخر للتيار الديني هو الجماعات المتطرفة المسلحة والقريبة فكريا من تنظيم القاعدة. هذه الجماعات لا يهمها العمل السياسي كثيرا وتعد الديموقراطية تقليدا للغرب وكفرا، ولا تعترف إلا بدولة دينية تقوم على البيعة، ولا تمثل ليبيا إلا جزءا صغيرا من جغرافيتها الإيمانية.. ومع ذلك  صاغ بعض هذه الجماعات موقفه من الدولة الجديدة في معادلة قاطعة، بحسب تصريحات زعمائها، تقول إن قامت الدولة بتطبيق الشريعة كنا معها وإن لم تفعل قاتلناها!
 من حيث الجوهر يمكن القول إن هذه الجماعات تعيش في أجواء حرب دينية داخل مجتمع مسلم.. هذه الإشكالية  تضعها في صدام دائم مع محيطها لعجزها عن التكيف  خارج قواعدها الفكرية المتزمتة.
مراكزالقوى الأخرى أيضا، والتي يمكن وصفها بالتقليدية، تٌعيق تعزيز مؤسسات الدولة الأمنية والدفاعية بذريعة الخوف مما يسمى بسرقة الثورة بخاصة من قبل مناصرين وبقايا للنظام القديم وصفوا بالمتسلقين.. في حين أن مراكز القوى في معسكر الثوار ذاته تتنافس فيما بينها للمحافظة على مكاسبها، وفرض الأمر الواقع في دولة  فضفاضة  تدار من طرف المنتصرين من القاعدة وليس من القمة.. هذا الواقع بالطبع سيعيق استقلال الدولة واستعادة عافيتها واسترجاع هيبتها، إذ أن ذلك يشكل خطرا على ما يمكن وصفه (بالإستقلال) النسبي المريح لكيانات قبلية وجهوية عديدة.
يبقى الرأي العام في ليبيا نسبيا،  في خضم هذه الفوضوى، محتفظا بتفاؤله بحياة كريمة وبدولة قوية موحدة، ولذلك نرى زخما وتفاعلا كبيرين في مواجهة الأزمات الخطرة كما حدث في بنغازي في مواجهة مسلحي أنصار الشريعة وكتائب أخرى.. الشارع الليبي يحاول بتجاوزه محاولات كبحه عبر فتاوي تحريم المظاهرات، أن يكون صمام أمان لعملية  البناء المؤسساتي الجارية في ليبيا رغم غياب ثقافة المجتمع المدني وجمعياته الأهلية المنظمة والمؤثرة. هذا النمط من الحراك الشعبي لا يتسم بالطبع بالإيجابية في مجمله، إذا أن بعض نشاطاته تتسم بالقبلية وبالنفعية، ويظهر ذلك في بعض الاعتصامات والاقتحامات التي يقوم بها غاضبون يسعون إلى فرض مطالبهم الخاصة والجزئية بالقوة.
الوضع الاستثنائي الذي تمر به ليبيا بكل معطياته في مجمله يعطي إشارات تحذير للجميع من خطورة منزلقاته، إذا أن الإصرار على إضعاف الدولة ومحاولات تطويعها أوإعادة تشكيلها على مقاسات خاصة،  سيؤدي إلى اشتعال صدامات بين مراكز القوى المختلفة، يرسخ وضع الدولة الفاشلة، ويفتح أبواب المجهول أمام الجميع. وفي نهاية المطاف لن يحقق التعصب القبلي والديني، والتكالب على السلطة وإطلاق العنان لشهية الانتقام وتصفية الحسابات أي فائدة لأصحابه، وسيشعل الصراع النار تحت أقدام الجميع ولن ينتصر إلا الخراب.


د. محمد الطاهر الحفيان

هناك تعليق واحد:

  1. مورا عبدو10/30/2012 12:30 ص

    تحليل بالغ الموضوعية....وواقعي مع باااالغ الاسف...
    والسؤال اليوم هو ليبيا إلى أين؟

    ردحذف

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...