2012/10/24

الصراع في ليبيا..


منطق القوة وشريعة الغنيمة



راجت في السنوات الأخيرة من حكم القذافي حكاية حمّلها الليبيون بمشاعر اليأس والتسليم بهيمنة النظام وديمومته.. الحكاية تقول إن مواطنا طفح به الكيل فلجأ إلى عرافة ذاع صيتها في فنون التنجيم والسحر وقراءة الغيب وما إلى ذلك.. ويمكنكم تخيل الرجل وقد وقف مستجمعا شجاعته ورباطة جأشه أمام العجوز التي لاشك في أنها نظرت إليه بعينين قاسيتين مليئتين بالغموض وهي تسأله عن غايته.

سألها كم سيظل القذافي من الوقت يحكم الليبيين.. أجابت العجوز العرافة بعد برهة من الصمت: أربعين عام وبعدين تتعودو عليه!!
أعتقد أن هذه الحكاية تعكس في طياتها حالة القنوط العميقة التي سادت سابقا من أي احتمال لزوال النظام. وهي قناعة فرضتها قسوته وهيمنته الكاملة على حركات وسكنات مواطنيه طيلة 42 عاما من التهميش والإزدراء في عملية تقليب ودحرجة متواصلة فقدوا فيها توازنهم .
السحر انقلب على الساحر .. وتغيرت الموازين فجأة وبدأ النظام الذي كان يظن انه راسخ وأبدي في الترنح.. اهتزار النظام وتخلخل أركانه لم يفقده دمويته وعناده والقسوة التي جُبل عليها فأطلق العنان للقوة العسكرية والأمنية لتضرب بلا رحمة المحتجين والثائرين ضده ضمن هجوم دعائي عنيف وسمج.
قدّم الليبيون تضحيات جمة في نزالهم مع كتائب النظام الجرارة، وتكللت ملحمتهم الدموية والعنيفة بالقبض على رأس النظام وقتله، فهوت فزاعة العقيد واندثر مجده الشخصي الذي سخّر له موارد الدولة الليبية عادا إياه هدفا استراتيجا حيويا.. قُتل القذافي ودُفن كما كان يفعل بضحاياه، بلا رحمة ومن دون أي احترام. عامله من اقتص منه بطريقته وبنفس أسلوبه، وصفى معه حسابا ثقيلا من القمع والإزدراء والشماتة.
القذافي تلذذ باظهار الآلاف وهم يلهثون وراءه، وجاءت اللحظة التي أصبح فيها مطاردا ذليلا مهانا وجثة متحللة في ثلاجة قديمة. وكل ذلك عُرض للعيان ووثق تشفيا كما كان يفعل أيام عزه.
ما حدث يمكن أن نجد له تفسيرا مقنعا في تركة القذافي الثقيلة وممارساته الدموية والفجة لكننا لا نستطيع تبريره والدفاع عنه إذا احتكمنا إلى منطق العقل والوجدان السوي.
ما يقلق ويخيف أن ليبيا وجدت نفسها فجأة بعد طي صفحة القذافي وجها لوجه مع أرث كبير من الخراب المادي والمعنوي وسط فراغ للسلطة وسيطرة أمراء حرب بمشارب متنوعة قبلية وإسلامية وجهوية على المدن الكبيرة.. أمراء حرب انتشوا بالنصر وبالقوة التي في أيديهم وصار بعضهم بلا حياء يعلن استعداده للاحتكام إلى السلاح، إذا سارت الريح بخلاف مشيئته ومصلحته.
وكما أفرغ القذافي ليبيا من أي قواعد أو مؤسسات أو سلوكيات ديموقراطية وجير البلد لنفسه ولعائلته، فالذي يُطرح الآن على الأرض هو تقاسم "الأقوياء" للغنائم، وليس المصالحة الوطنية، وبناء الدولة الحاضنة بالجميع، والذوبان في مؤسساتها الجديدة ونسيان الماضي..
رغم الكلام المتفائل والأماني التي يرددها البعض إلا أن واقع الحال في بلادنا يدل على أن مهمة الإجماع على بناء مؤسسات الدولة والاتفاق على هياكلها يصطدم بالكثير من العوائق. أكبر اشكاليات بناء مؤسسات الدولة الجديد هي الاتفاق على صبغتها.. الكثيرون يعلنون أنهم يريدون إقامة دولة اسلامية خالصة. لا ضير في ذلك من ناحية المبدأ إلا أن غياب النموذج الإسلامي في الحكم في عالمنا المعاصر، واختلاف التفسيرات والقراءات المذهبية لأحكام الشريعة، وتطرف وعنف بعض التنظيمات الإسلامية يطرح شكوكا قوية حول ماهية الدولة الإسلامية التي يراد إقامتها. تصريحات مسؤولي ليبيا الجدد في هذا الصدد تؤكد على طبيعة الإسلام الوسطي المعتدل في البلاد متجاهلة التغيرات العميقة التي قلبت المفاهيم وأثرت في وعي أعداد ليست قليلة من شبابنا المغرمين بالإسلام الجهادي والمقاتل وبتجربته الأفغانية القاسية.
المهمة الحيوية الراهنة أمام الليبيين، والتي لا بديل عنها، تتمثل في إقامة دولة للقانون، تضع حدا للتمزق والانهيار، بالشروع فورا في تنفيذ برنامج متكامل للمصالحة واعادة هيبة الدولة في ظل نظام يسع الجميع وترضى عنه الأغلبية، ولا يقصي أي جهة بما في ذلك من كان محسوبا على النظام القديم .. نظام يشرع بشكل منظم في  التخلص من تركة القذافي الفوضوية الثقيلة في كل مناحي الحياة وينهض إلى اعمار الخراب وإعادة البناء ورأب الصدع من خلال مؤسسات ترسخ مفهوم المواطنة، وتعيد للهوية الوطنية بريقها وبهاءها.
آمال كبيرة ومهمات جسيمة تنتظرنا، وأخطر ما يقف بيننا وبين تحقيقها هو السلاح إذا نجح ممتشقوه، في جعله لغة للاستحواذ على ما يعدونها غنائم وحقوقا للمنتصر وللأقوى.

 
د. محمد الطاهر الحفيان

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...