2012/10/26

ليبيا.. وماذا بعد!؟

 
تبرز تعقيدات ما يمكن وصفها بالحالة الليبية في مستويات عدة أرى أن أهمها يتمثل في محاولة بعض الفئات احتكار الثورة والاحتفاظ بأكبر قدر من المكاسب تحت عنوان: قاتلت حين كان الآخرون نياما!
يمكن تفهم ما يطرح في مثل هذا الشعار إذا جاء في سياقه المناسب، لكن من المحال القبول به حين يتحول إلى ذريعة للهيمنة والإملاء والسيطرة على مقدرات الدولة وسلطاتها.
لا يمكن أن يكون هناك مستقبل لدولة ينقسم مواطنوها إلى منتصرين ومهزومين، ثوار وأزلام، طيبين وأشرار.. هذه الثنائيات تناقض كل المفاهيم الطبيعية والمنطقية، وتتقاطع مع المسؤولية الوطنية واستحقاقاتها، بخاصة عقب الأحداث الجسام التي تخلف جروحا غائرة وتغرس أحقادا وتوقظ أخرى..
هذا النوع من التفكك الإجتماعي والسياسي الذي استشرى في أوساط من المجتمع الليبي ينذر بالخطر خاصة مع انسياق الانتلجنسيا إليه، وتبني أغلب الرموز القيادية لطرحه المنفعي الضيق.
من هذا المنطلق لا يمكن تقبل ما يحدث في ليبيا الآن على أنه حالة طبيعية أو أمر مؤقت، فالظواهر المرضية يؤدي الصبر عليها أو تجاهلها وإهمالها إلى مضاعفات تتحول مع مرور الزمن إلى أمراض مزمنة وفتاكة!
كما أن الاتكال في هذه الحالة على الديموقراطية كدواء سحري سيتمكن بعد تعاطيه من إبطال مفعول الاحتقان خيار خاطئ. الديموقراطية ليست سوى قطعة قماش بإمكانك أن ترتديها هنداما لائقا أو تطرحها على نفسك كيفما اتفق..هي توفر هامشا للمناورة في مختلف الاتجاهات، هامشا للتعبير السلبي والايجابي وبالمثل الحركة. وهي تتأقلم من حيث الجوهر مع المستوى الحضاري للمجتمع وتعكس ماهيته ولا تضيف شيئا من خارج بيئتها. هناك إمكانية متاحة دائما لما يمكن وصفه بتقمص الديموقراطية. يمكن لأي مجتمع أن يرتدي ثوب الديموقراطية ويؤدي طقوسها بحسب ما تسمح قدراته ومداركه..
من ناحية أخرى علينا أن نعي أنه لا توجد وصفات جاهزة لأزمات الشعوب. وفي مثل حالة الزلزال التي ضرب بلادنا بعنف لا تنفع سياسات تسكين الأوجاع وتطيب الخواطر. ما يفيد هو امتلاك الإرادة والقدرة على رصد الواقع ومحاربة الخلل حال بروزه من دون تسويف أو مماطلة.الدولة ككيان مركب من خصوصيتها أن أي انحراف صغير يحدث في حركتها بفعل قصور ذاتي، يجر دوما إلى ما هو أكبر. هكذا تبدأ الانهيارات دائما. لذلك علينا أن نعي أن كل ما نقوم به لن يكون مجديا إذا لم يكن متناسقا ومتسقا مع جسامة المحنة التي نمر بها.
الاستحقاق العاجل في الحالة الليبية التي تعاني من عجز كبير في أداء مؤسسات الدولة الجديدة هو المصالحة الوطنية. هذه قضية لا تحتمل التأجيل، وهي عنصر رئيس لإعادة الاستقرار إلى المجتمع الليبي، ودولته الحاضنة، ونزع فتيل الخطر الذي يهدد السلم الاجتماعي ووجود الدولة برمتها. المصالحة ليست تنازلا من أحد، كما أنها ليست منة، وليست عفوا عاما، ولا علاقة لها بالجانب الجنائي. عنوان هذه القضية الحساسة إعادة اللحمة الوطنية، وطي صفحة المآسي التي وقعت أثناء الحرب التي فرضها القذافي على شعبه وعلى المجتمع الدولي.
هذا الاستحقاق الصعب هو أحد التحديات الي تواجه الدولة الجديدة. وهي تحديات تتطلب قرارات جريئة ومؤلمة أحيانا للتصدي لها.. مدخل المصالحة في مثل هذه الحالات المركبة يشكل أرضية مناسبة لنزع الاحتقان المتصاعد، وإعادة تركيب ما تشظى من علاقات وروابط. المصالحة الحقيقية ليست أمرا ثانويا ومنفردا، بل استراتيجية متكاملة تبدأ بجمع السلاح من الجميع من دون أي استثناء، وتسليم سلطات الأمن والدفاع وغيرها إلى الدولة بحزم ومن دون تأخير.
لا يمكن تحقيق مصالحة حقيقية وسط غابة من الأسلحة، وعلى أرض تنتشر فيها كتائب (ثورية) أنجزت مهمتها الإستثائية في القضاء على النظام القديم، إلا أنها بقيت بذرائع متنوعة تؤدي أدوارا علنية وسرية، وتحتفظ بصلاحيات ساهمت بشكل كبير في إعاقة بناء مؤسسات الدولة الأمنية والدفاعية..
المصالحة تعني المساواة بالدرجة الأولى وبالتالي على (المنتصرين) التخلي عن طموحات السيطرة والاستحواذ على سلطات وامتيازات أكبر بحجة الاولوية حتى يمكن السير بليبيا إلى مستقبل لا يعبد بمزيد من الدماء والثارات والأحقاد. أوهام القوة القبلية والجهوية لا تؤدي إلا إلى الصدام الدموي بين الفرقاء، الضعاف منهم والأقوياء. وهذا يعني حربا أهلية تستدرج الجميع إلى هاوية لا قرار لها.
 

د. محمد الطاهر الحفيان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...