2012/10/26

السباحة ضد التيار .. والموت جوعا


"مأساة دانييل يوفاتشوف خارمس"

 دانييل خارمس أديب روسي من الحقبة السوفيتية تميز بمسحة نقدية لاذعة وبسخريته المريرة وبمزاجه السوداوي.  صاغ خارمس ابداعاته في قوالب متنوعة باسلوب يتميز ببساطته الشديدة  وبمقدرته الكبيرة على التصوير النقدي الساخر.

كتب خارمس في يومياته  عام 1937 يصف مذهبه الفني ورؤيته الجمالية للابداع :"أهتم فقط بالهراء. أهتم فقط بما ليس له أي معنى عملي. تهمني فقط الحياة في مظهرها العبثي. البطولة والشفقة والبراعة والأخلاق والنظافة والرقة والانفعال، بالنسبة لي كلمات بغيضة. إلا أنني أتفهم واحترام تماما السرور والاعجاب والإلهام واليأس الشهوة وضبط النفس والفجور والعفة والحزن والأسى والفرح والضحك. "

شخصية خارمس المتمردة أدخلته في صدام مع السلطة السوفيتية،  فذاق مرارة السجن والنفي عام 1931 وعاش السنوات التالية فقيرا معدما بعد أن أُغلقت أبواب النشر في وجهه.

في عام 1941 مع وصول نيران الحرب العالمية الثانية إلى روسيا  اعتقل خارمس من جديد بسبب وشاية نقلت على لسانه كلاما عُد انهزاميا. ادعى خارمس الجنون أمام المحكمة كي ينقذ نفسه من حكم الإعدام.. نجا من موت محقق وأرسلته المحكمة العسكرية إلى مستشفى للأمراض النفسية  تابع لسجن في مدينته لينينغراد..

في العام التالي  وفي خضم  ظروف الحصار الخانق الذي فرضه الألمان على مدينة لينينغراد قضى خارمس نحبه بطريقة مأساوية. نسيه سجانوه وحين فتحوا باب زنزانته وجدوه متكوما على الأرض وقد فارق الحياة من الجوع والبرد.

فيما يلي نماذج من كتابات خارمس  تعكس أسلوبه الخاص ومقدرته التصويرية البارعة وسخريته اللاذعة التي  بدأ القراء  الروس في إعادة اكتشافها في السنوات الاخيرة  بعد أن خرجت إلى النور مخطوطاته التي ظلت منسية مهملة سنوات طويلة.


خداع بصري

سيميون سيميونوفيتش يرتدي نظارته ينظر إلى شجرة الصنوبر فيرى رجلا يجلس على الصنوبرة  مظهرا قبضته له.
سيميون سيميونوفيتش ينزع نظارته ينظر إلى الشجرة ولا يرى أحدا يجلس على الصنوبرة.
سيميون سيميونوفيتش يرتدي نظارته ينظر إلى شجرة الصنوبر فيرى رجلا يجلس على الصنوبرة مظهرا قبضته له.
سيميون سيميونوفيتش ينزع نظارته ينظر إلى الشجرة ولا يرى أحدا يجلس على الصنوبرة.
سيميون سيميونوفيتش مرة أخرى يرتدي نظارته ينظر إلى شجرة الصنوبر ومرة أخرى يرى رجلا يجلس على الصنوبرة  مظهرا قبضته له.
سيميون سيميونوفيتش لا يريد تصديق هذه الظاهرة ويعتقد أنها ظاهرة خداع بصري.

 الصندوق

إنسان برقبة رفيعة انحشر في صندوق وأغلق على نفسه غطاء الصندوق وبدأ يختنق.. قال المختنق ذو الرقبة الرفيعة:  ها أنا أختنق في الصندوق لأن لي رقبة رفيعة. غطاء الصندوق مغلق ولا يسمح بوصول الهواء إليّ. انا سوف أختنق، لكني على اي حال لن أفتح غطاء الصندوق. سأموت بالتدريج. أشاهد الصراع بين الحياة والموت. المعركة  تجري بطريقة غير طبيعية مع فرص متساوية لأنه بحكم الطبيعة ينتصر الموت، والحياة مصيرها الموت، فقط عبثا نصارع عدوا ولا نفقد حتى اللحظة الأخيرة  الأمل سدى. في نفس هذا الصراع الذي سيجري الآن، الحياة ستجد طريقة لانتصارها: لأجل ذالك على الحياة أن تجبر يدي على فتح غطاء الصندوق. سنرى لمن ستكون الغلبة؟ إلا أن  رائحة النفثالين تفوح بفظاعة هنا. إذا تغلبت الحياة سأكون شيئا في صندوق نثر  تبغ  داخله.. ها  قد بدأنا. لم أعد قادرا على التنفس. أنا مت، هذا جلي! لا نجاة لي! و لا شيئا ساميا في رأسي . أنا أختنق!.. آه ما هذا؟  الآن شيئ ما حدث، لكني لا أفهم تحديدا كنهه. رأيت شيئا ما أو سمعت شيئا ما . أوه شيئ ما حدث من جديد؟ يا إلهي! لا أجد ما أتنفسه. أعتقد أني أموت... وماذا يكون هذا أيضا ؟ لماذا أنا أغني؟ أعتقد أن رقبتي تؤلمني... لكن أين هو الصندوق؟ لماذا أرى كل ما هو موجود عندي في الغرفة؟  نعم وكيف استلقي على الأرضية! وأين هو الصندوق؟
الشخص ذو الرقبة الرفيعة نهض من الأرضية وتلفت حوله. الصندوق لم يكن موجودا في أي مكان. الأشياء المخرجة من الصندوق ملقاة على الكراسي والسرير فيما الصندوق لا وجود له.
الشخص ذو الرقبة الرفيعة قال: هذا يعني أن الحياة انتصرت على الموت بطريقة مجهولة لدي.
(كتب خارمس في  حاشية مسودة القصة: الحياة انتصرت على الموت  حيث الفاعل والمفعول به.)

تاريخ متصارعين

 أليكسي أليكسييفيتش سحق أندريه كارلوفيتش أدمى له وجهه وأطلق سبيله. أندريه كارلوفيتش اندفع شاحبا من شدة الغضب نحو اليكسي اليكسييفيتش وضربه على أسنانه.
أليكسي أليكسييفيتش الذي لم يتوقع هذا الهجوم السريع  سقط على الأرض، وجلس اندريه كارلوفيتش فوقه وأخرج من فمه طقم أسنانه الاصطناعية  وعاجل به أليكسي أليكسييفيتش الأمر الذي جعل أليكسي أليكسييفيتش ينهض من على الأرض بوجه مشوه بالكامل ومنخار ممزق..
 هرب أليكسي أليكسييفيتش ممسكا وجهه بيديه. أما اندريه كارلوفيتش فمسح طقم أسنانه ووضعه في فمه وتأكد بأنه ركب في مكانه، نظر حوله وحين لم ير أليكسي أليكسييفيتش مضى يفتش عنه.
   
محمد الطاهر الحفيان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...