2012/10/26

في انتظار عودة الإمبراطور من منفاه!


لم يشفع للإمبراطور أي شيء.. لا أصوله الليبية الفنيقية من جهة الأب، ولا تشبعه بلغته الأم الفينيقية المحلية حد رطانته باللغة اللاتينية طيلة حياته، ولا مهاجمة خصومه له لكونه أجنبيا غريبا عن العادات والتقاليد الرومانية، ولا اهتمامه بمسقط رأسه لبدة الكبرى وتعميره لها..

لم يكن للإمبراطور سبتيموس سيفيروس أي خصومة مع القذافي. ولم ينازعه في شيء بطبيعة الحال. إلا أن عقلية المستبد الأوحد لم تطق أن يُطل الإمبراطور في منحوتة برونزية على الشعب الليبي في ميدان الشهداء بطرابلس، فأمر  بابعاده إلى لبدة مسقط رأسه ليكون بعيدا عن الأنظار بين أطلال التاريخ..
حجة الدكتاتور تتمثل في أن سبتيموس سيفيروس مستعمر أجنبي، ولا يجب أن يُكرّم بنصب تمثال له في ساحة عامة..
إلا أن دوافع القذافي لإبعاد سبتيموس سيفيروس لا تعود فقط إلى  شغفه المرضي بالشعارات الشوفينية التي ما فتأ يملأ بها أسماعنا لتخذيرنا طيلة 42 عاما من حكمه البائس، بل تعود بالخصوص إلى غيرته من أي منافسة لإطلالته الدائمة والوحيدة، ومحاربته المستميتة لأي شيء ولأي شخص يمكن أن يشاكس هيمنته الكاملة على المشهد الليبي برمته في حاضره وماضيه ولو معنويا..
لم يذّخر القذافي أي جهد لتفريغ ليبيا من أي إرث لا يعبر عنه وعن شطحاته وأهوائه حجرا كان أم بشرا. وكان جل همه أن تنقطع ليبيا عن ماضيها لتصبح له وحده شكلا ومضمونا..
حاول القذافي تغيير كل شيء في ليبيا: علم الدولة واسمها مرتين، ونظامها، وشهورها، ووقائع تاريخها،  وأسماء شوارعها ومؤسساتها.
 حشر الدكتاتور أنفه في كل شيء، وشوه ما طالته بصمته الغريبة والشاذة. ومع ذلك لا يتوقف التاريخ طويلا عند اقدام أحد، ولا يحني رقبته للطارئين، أولئك الذين اعتلوا شعوبهم ونكلوا بها، ليصنعوا مجدا لأنفسهم في الهواء.
يظل سبتيموس سيفيروس، رغم محاولات الإلغاء، رمزا للتاريخ المختلط وللتمازج الإنساني الحضاري يحمل في طياته الكثير من دمنا وروحنا وعرقنا وهُويتنا، كما هو حال شواهد التاريخ وصروحه في لبدة وشحات وسوسة وصبراتة وأويا، وفي أكف الصيادين البدائيين وطرائدهم الموسومة على صخور أكاكوس.
لا يمكن تجزأة التاريخ في بقعة ما وغربلة عناصره وفصل الدخيل عن الأصيل فيه. هو مثل السبيكة في تلاحم أحداثه وتشابك مكوناته، وبالتالي لا يمكن إعادة سبكه ايديولوجيا، لإزالة ما يُعتقد بأنها شوائب عالقة به. هذا سبيل عبثي لا طائل منه، ولا يؤدي إلا إلى طمس الماضي وتشويه الحاضر. 



د.محمد الطاهر الحفيان

هناك تعليق واحد:

  1. غير معرف12/07/2013 9:53 م

    بارك الله فيك اجدت الوصف والتعبير وهذه فعلا عقلية من كان يحكمنا طيلة نصف قرن

    ردحذف

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...