2010/10/30

"غـــــابــــــة"

مشينا ربما مسافة طويلة، ربما قصيرة، ربما قريبة، ربما بعيدة... وصلنا إلى قرية "سيوزما". هنا ودعتُ ألكسي الذي مضى في المقدمة، أما أنا فلم أثق في قدمي وطلبتُ إرسال قارب يلحق بي في الجبال الحمراء ـ وهي قرية تقع عند البحر تماما ً في جهة "شفاه أونسكي".
تفارقنا. استرحتُ يوما ً ومضيتُ إلى الجبال الحمراء.
امتد طريقي عند تماس الغابة والبحر. هنا مكان للنضال، للمعاناة. مشاهدة صنوبرات وحيدة مرعبٌ ومؤلم. هي لا تزال حية، لكن مشوهة بفعل الريح، كما لو كانت فراشات بأجنحة منتوفة. تتلاحم الأشجارُ أحيانا في دغل كثيف، تلاقي الريح القطبية، فتنحني في اتجاه الأرض، تئن، إلا أنها واقفة تربي تحت حمايتها تنوبات خضراء ممشوقة وبتولات ناصعة قائمة. شاطئ البحر الأبيض العالي يبدو كظهر وحش شمالي كث. توجد كثيرٌ من الجذوع المسودة الميتة هنا، تصطدم القدم بها. كما نشاهد أماكن خالية سوداء تماما ً، كما على سطح قبر.
هنا كثير من القبور. لكني لم أفكر بها. حين مضيتُ، لم يكن هناك صراع، كان هناك الربيع: بتولات منحنية نحو الأرض، حاملة رؤوسا خضراء، صنوبرات تشرئب، منتصبة.
كان عليّ أن أحصل على طعام لنفسي، فشغفت بالصيد، كعمل معيشي جاد. سنحت لي في الغابة، على مرج خال، كروانات جميلة. وطارت في مختلف الاتجاهات، أسرابُ من أبي طوق. لكن الذي أعجبني أكثر الاقتراب خفية من الطيور البحرية المجهولة. من بعيد لمحت رؤوسا هادئة، ربما بيضاء، أو سوداء. عندما أنزلت حقيبة الظهر، تركتها في مكان ما تحت صنوبرة أو حجر مميزين وزحفت. زحفتُ أحيانا ً فيرستا أو اثنين، الهواء في الشمال شفّاف، لمحتُ طائرا ً من بعيد وغالباً ما انخدعتُ في تقدير المسافات. تورم جسدي حتى نزفت يدي وركبتي على الرمال، وعلى الحجارة الحادة، وعلى الغصينات الوخازة، لكني لم ألاحظ أي شيء.
الزحف مسافة غير محددة نحو طيور مجهولة ـ هذه هي متعة الصياد السامية، هذا هو الحد، الذي يتحول فيه اللهو البريء المضحك إلى شغف جاد.
أزحف وحيدا ً تماما ً تحت السماء والشمس، نحو البحر، لكني لا ألمح شيئا ً، لا ألمح أي شيء من هذا لأن كثيرا ً جدا ً من هذا كله في نفسي. أنا أزحف، كوحش، أسمع فقط كيف يدق قلبي بعنف وألم. هاهو على الدرب يمتد نحوي غُصين أخضر بريء، ينجذب إليّ، ربما، بمحبة ورفق، لكني أبعده بهدوء وحذر، أنحني على الأرض تراودني فكرة تحطيمه بصمت. وكأنه يئن... أرتعب جدا ً، أنبطح على الأرض تماما ً، أفكر: ضاع كل شيء، الطيور فرّت. بعد ذلك أنظر بحذر إلى الأعلى. كل شيء هادئ، الصنوبرات المريضة غارقة في الشمس، ألقُ اخضرار البتولات يغشى البصر. كل شيء ساكن، كل شيء صامت. أواصل الزحف إلى الأمام نحو حجر معين، أُعد البندقية، أسحب الزناد وببطء ألقي نظرة من خلف الحجر، مواريا ً بندقيتي في الطحالب الرطبة.
أرى، في بعض الأحيان، على بعد أربعة أو خمسة أمتار أمامي، طيورا ً كبيرة غريبة، بعضها نائم على قدم واحدة، والبعض يسبح في البحر، وأخرى تنظر ببساطة إلى السماء بعين واحدة، مائلة برؤوسها إلى هناك. مرةً تسللت إلى نسر نعسان على صخرة، ومرة ثانية ـ إلى عائلة بجع.
مرعوبا ً من التحرك، لا أحزم أمري في توجيه البندقية نحو الطائر النائم.
أنظر إليها بإمعان، حتى لحظة القيام بحركة ما سهوا ً، أو بانقصاف غصين تحت مرفقي بتأثير ذكريات حزينة، تطير كل الطيور بضجيج هائل، بانقصاف وخفقان أجنحة، مبتعدة إلى جهات مختلفة. لستُ متحسرا ً، لستُ غاضبا ًمن نفسي على عدم إصابتي الهدف. وأنشرح لأنني هنا وحدي، ولم يشاهد خيبتي أحدٌ من رفاقي الصيادين. لكني أحيانا ً أقتل. عندما لا يكون الطائر بعد في يدي، أستمتع بشيء ما أكثر، وعندما أحمله في يدي، كل شيء يمضي. تجري أحداثٌ عصيبة أحيانا ً، عندما لا يُصاب الطائر في مقتل. عندئذ ابدأ في التفكير في ولعي بالصيد وبالطبيعة، كما في شيء سيئ جدا ً. هكذا أفكر، لكن تسنح لي على الطريق طيور جديدة، أنسى ما فكرتُ فيه منذ دقيقة مضت.


تأليف: ميخائيل بريشفن

ترجمة: محمد الطاهر الحفيان







هناك تعليق واحد:

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...