2010/10/31

برودة.. وخبزة بالبلاش

أشعر بأن الزمن في السنوات الأخيرة صار ينقضي في رمشة عين.. بدا لي كما لو أنه أصبح يهرول هربا إلى الماضي بطريقة أسرع من المعتاد ..  شعور الكهولة هذا الذي تملكني في لحظة تأمل حزينة ذكرني بحوار جرى مع صديق قديم كنا نلقبه بالزينقو، ولا أدري حتى الآن سببا لالصاق هذا اللقب به .. رد على سخريتي من تكور كرشه وتغضن قسمات وجهه وتساقط شعره بمعادلة حسابية بسيطة تبرر حالته تقول إن متوسط عمر الانسان ستون عاما وبالتالي وبما أنه تجاوز الثلاثين فالعد العكسي بدأ.
فارقت الأيام بيني وبين صديقي علي الزينقو الذي كان كتلة من الشغب والضجيج والمرح وبعد عشر سنوات أو يزيد من الاقامة في بلاد الغربة الباردة، عدت والعود أحمد كما يقال. وشاء طالع السعد أن التقي بصديقي القديم بمحض الصدفة إذ قابلني على أحد أرصفة طرابلس بقامته القصيرة، وكرشه الذي ازداد امتلاءا وتهدلا.. تعرفت عليه بصعوبة . هيئته العامة وحدها دلتني عليه. كان يرتدي سترة صوفية مهترئة في عز الصيف، وينتعل حذاءا تقوس جزؤه الزائد عن مقاس قدميه، ويعتمر قبعة تقليدية بنية اللون كنا نسميها في أحاديثنا (مانعة الذكاء)..
استوقفته محييا فنظر إليّ بعينين خاويتين ودار بيننا الحوار التالي الذي أنقله لكم بالقدر الذي سمح به الزمن من أمانة.

- عليوا .. عرفتني؟
- الحفيان.
- شن صار فيك؟
- عادي.. ماشي الحال.
- كيف حالك؟
- اليوم اللي يفوت ياسلام عليه!
- خيرك فازع.. من يجري وراك؟
- ماشي بنجيب المرا من حوش بوها.. تستنا فيا نص نهار.. دارتها فيا الشقفة اليوم ومابتش تولع.. مشيت كعابي نبي انخلص الضي اللي قطعوه علينا آمس القيت طابور يستنا فيا.. وقفت مع التريس وهدرزنا نفوتو في الوقت.. زاد الطابور وما قربناش من الحصلة.
كانك ما سجلتش عند جماعة توزيع التروة لحق. لما طولت حكاية الكورينتي لمينا بعضنا ومشينا شدينا طابور الفلوس قالوا بيعطو عشرالاف للنفر وفيه من يقول حتى اكتر. بالك نحصلو قريشات نفرهدو بيهم في آخر عمرنا..
انت طلعت يا منجوه واطلينت.
والله فرحتلك ودعيتلك لما عرفت انك هاجرت..
وليت في وقتك.. المره هدي بيصير منها.. اللي فوق حلفو بالطلاق .. ما فيهاش عاد... الحمد لله عايشين في خيار الخير ما ناقصنا شي.. برودة وخبزة بالبلاش.
تفرج على التلفزيون وكدبني كانك تقدر .. حالنا خير من الصومال ومن تشاد .. قالو الشهر اللي فات خنبو تلفزيونها رابع مره وما خلو فيه شي .. تخيل بلاد ما فيهاش تلفزيون.. هو احني من غير انتينا ما نقدروش نعيشو كيف عاد كان الصندوق اتسكر.
لا الدنيا اتغيرت كنت انقز زمان فوق الحيط لما الانتينا ما تجيبش الطلاينا.. توه عندي الطلاينا وغيرهم صيف وشتي.. معليش كان مازلت نتفرج بالدرقا.. الحوش ضيق والولاد كبرو.. خليتك من غير سو.
ومضى صديقي بعد أن أفرغ ما في جعبته أمامي ومضيت في الاتجاه المعاكس.. توقفت والتفتت إلى الخلف كان يتدحرج على الرصيف كتلة تكاد تكتمل استدارتها.
غرقت في تأمل عميق واستندت على الجدار.. عفونة قوية أيقظتني من أفكاري المخدرة، فإذا بعشرات من أكياس القمامة تشاركني في الإتكاء على الحائط .. هرولت مسرعا بمزاج عكر.. وفجأة انتابتني رغبة في اللحاق بصديقي القديم .. وددت أن أقول له إن معادلته العُمرية فيها قدر كبير من الصحة.. نعم ثلاثون عاما هي القمة خاصة إذا قُضيت في طرابلس..
 في طرابلس الزمن أثقل من أي مدينة أخرى في العالم.. فترت همتي للحاق بصديقي القديم بعد أن غاب تماما عن ناظري، وتأخر الوقت لتحقيق هذه الأمنية.. ثم إنه مشغول .. هو منهك بالأشغال والهموم.. حاولت الخروج من تأملاتي التي بدت لي تعيسة إلى درجة لا تحتمل، فتسليت بأفكار أخرى.. أسرتني الأفكار الجديدة وأغرقتني في لجتها فغبت عن الوعي..

محمد الطاهر الحفيان


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...