2010/04/04

مترو موسكو.. ومأساة الثأر من الأبرياء

Photobucket
 مترو موسكو في روسيا الاتحادية أحد الأمكنة التي لا تزال تحتفظ برموز مجد الإمبراطورية السوفيتية، إذ لا تزال شعاراتها الإيديولوجية، وبريق مجدها المطفأ رسميا منذ عام 1991م ماثلة على جدرانه حتى الوقت الراهن.
يجمع مترو موسكو المتناقضات ويختزن التاريخ، كما لو كان هرما نقشت على جدرانه رسائل للخلود.. رسائل لا يزال في مقدور نحو ثمانية ملايين شخص يستعملون مترو موسكو في تنقلاتهم يوميا قراءتها واستحضار ماضيها.
هذه الصروح المعمارية التي تشبه سلسلة طويلة من المتاحف التاريخية تحت الأرض، أصبحت في السنوات الأخيرة مسرحا مأساويا للانتقام عبر استهدافه باعتباره قلب مواصلات يمكن من خلاله توجيه ضربات موجعة تحصد أرواح عشرات الأبرياء بهدف إرسال رسائل سياسية إلى الدولة الروسية بأشلاء مواطنيها.
الرسائل توجه من شمال القوقاز وتحديدا من الشيشان وداغستان إلى الكرملين. وهي رسائل دموية بشعة تعبر بشكل ما عن أزمة الإمبراطورية الجديدة التي لم تتخلص بعد من مضاعفات أزمات التحولات الكبرى إثر انحلال الاتحاد السوفييتي.
رسائل الكراهية والانتقام الملغومة التي تُدفع أرامل لحملها وإيصالها إلى مترو موسكو، لتفجيرها وسط المسافرين، تعكس في جوهرها ظاهرة وافدة، اقتبست العنف الأعمى من الحالة المرضية التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط، تماما كما اقتبست من هناك التعاليم الوهابية التي شكلت غطاء ايديولوجيا للحركة الدينية المتمردة في القوقاز، خاصة أن التراث الثقافي الديني السائد في منطقة شمال القوقاز وهو خليط من الإسلام التقليدي السني المتشبع بالحركات الصوفية، يمثل هوية تاريخية لسكان المنطقة وبالتالي فتناقضه مع الوهابية الطارئة وأساليبها العنيفة يقف ضد انتشارها.
الوهابية وجدت موطئ قدم في الشيشان وما حولها نتيجة الفراغ الناتج عن انهيار الإمبراطورية السوفيتية وايديولوجيتها الشيوعية. المذهب الوهابي، كان بصورة ما الايديولوجية الجديدة التي أريد لها أن تقيم في القوقاز دولة إسلامية تستفيد من ضعف الدولة الروسية الجديدة وانهيار أجهزتها.
موجات التمرد في القوقاز خاصة في الشيشان انحسر عنفوانها مع استقرار الأوضاع في روسيا الاتحادية وتزايد تماسكها السياسي والاقتصادي والعسكري بعد فوضى التسعينيات والتي أفرزت وضعا غريبا في المنطقة بتحول الشيشان إلى بؤرة للعنف ولتصدير التمرد، بدل الاستفادة من هذا الظرف الطارئ في تعزيز الاستقلال والاستقرار والوحدة السياسية والتعايش السلمي مع المحيط الجغرافي بتنوعه السياسي والديني.
مع تعافي روسيا من أزمات التسعينيات، فقدت حركة التمرد في الشيشان زمام المبادرة في صراعها مع موسكو، حيث فشلت في الامتداد إلى داغستان، بل ودفعت الحكومة الروسية مع اشتداد عودها إلى قمع التمرد بعنف في الشيشان وضم المنطقة من جديد إلى حضيرتها.
التمرد في الشيشان زاد انحساره بعد تصفية رموزه كخطاب وباساييف ومسخادوف، وانتقلت المواجهة العسكرية مع روسيا من حرب العصابات التقليدية إلى مرحلة جديدة، هي تلك التي أصبحت محطات مترو موسكو إحدى ساحات صراعها.
التفجيرات الإرهابية في محطات مترو موسكو، هي عمليات ثأرية، يحاول بعض اليائيسن والثكالى من خلالها، النفخ في جذوة الكراهية بإراقة مزيد من الدماء، إذ لا تسمح موازين القوة في الوقت الراهن، وفي المستقبل المنظور، بأكثر من ذلك. وفي ضوء المعطيات الراهنة يستحيل إدراج هذه التفجيرات الانتحارية ضد الأبرياء العزل في سياق منطقي ذي مطالب سياسية معقولة، وليس تصريح دوك عماروف، زعيم المتمردين الشيشان بأنه شخصيا أعطى الأوامر للقيام بالتفجيرات الانتحارية في مترو موسكو لضرب الكفار، إلا تأكيد لفقد التمرد في القوقاز لاتزانه المنطقي والأخلاقي بعد أن تجازوته التطورات على الأرض.
فرغت جعبة المبررات والوسائل التي تستخدمها بقايا التمرد في شمال القوقاز في صراعها مع الدولة الروسية فلجأت إلى الاستفادة من تقاليد الثأر والدم القبلية واستخدامها في الصراع غير المتكافئ مع روسيا.. هذا الصراع من وجهة نظر وسائله وأهدافه يمكن وصفه بالعدمي إذ أنه يقتات على الكراهية والنظرة الإيديولوجية الدينية الضيقة، ولا يجيد قراءة معطيات الحاضر، بل ويستعير أدوات الماضي في تسخيره لتقاليد الثأر البالية لتحقيق مكاسب سياسية موهومة.
استخدام تقاليد الثأر كغطاء للصراع السياسي في القوقاز وكتعبير عن غياب القانون ليس حكرا على حركة التمرد المناهضة لروسيا في المنطقة بل إن الحكومة الشيشانية الموالية لموسكو ذاتها تمارس نفس الأساليب، ويلجأ الرئيس الشيشاني رمضان قديروف إلى حجج الثأر لتبرير تصفية خصومه السياسيين.
Photobucket

رغم محاولات البعض ربط أعمال العنف في شمال القوقاز ضد روسيا بالإرهاب الدولي، إلا أن التمرد في المنطقة في سياقه التاريخي يشير إلى أنه إحدى النتائج الخطيرة لمرحلة الانهيارات العشوائية التي أصابت روسيا بحالات من الوهن في مجالات عدة، وبالتالي فان الخروج التدريجي من هذه الأزمة مرتبط بجانبين الأول استقرار روسيا ونموها الاقتصادي والثاني فعالية أساليب معالجتها لجذور ظاهرة التطرف والعنف في شمال القوقاز.


د. محمد الطاهر الحفيان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...