2010/03/04

العولمة .. وقتل الروح القومية


رسّخت أيديولوجية " النظام الدولي الجديد" خلال  السنوات الأخيرة في الوعي الجماعي أن العولمة هي ظاهرة تاريخية حتمية، بالإضافة إلى أنها، تقدمية، وكل ما ينتج عنها مفيد للإنسانية.
هياكل قوة النظام الدولي الجديد، مثل الناتو، ومنظمة الأمم المتحدة، والمجلس الاقتصادي الأوروبي، ومجموعة السبعة الكبار شُيدت تدريجيا ً، بدون الإشارة إلى أهدافها الحقيقية. كان هذا الأساس، الذي استدعته دواعي المحافظة على " الوضع القائم" للعولمة، المُرتبة بواسطة منظومة الدوائر المكثفة ــ " العالم الأول": مجموعة السبعة الكبار، "العالم الثاني": يضم أكثر الدول قربا ً من مجموعة السبعة الكبار، أخيرا ً "العالم الثالث": المحيط الريفي، وهو المحيط المتأخر للنظام الدولي الجديد. وكذلك كانت وستبقى الدول المبعدة المغضوب عليها. وغير معروف من هي الدول التي ستضمها المجموعة في الغد. نموذج العدو، في الظروف النفسية لاحتكار وسائل الإعلام الدولية، يمكن أن يتغير بشكل حاسم بين ليلة وضحاها. من الممكن أن يصبح العدو في المستقبل، روسيا المنهكة المحاصرة من كل الجهات بدائرة ثعبانية من القواعد العسكرية لحلف الناتو.
ترتيب الدول المعاصر، تأكيد نهائي للنظام الدولي الجديد، الذي حُضر له لقرون بمساعدة الأذرع المالية للأقلية الدولية الحاكمة، وبالسياسات الاستعمارية للغرب وبالنزاعات العسكرية الدولية. الحرب ــ هي أم التاريخ، تلك المتغيرات، التي تحدث على مدى مئات الأعوام مرحليا في المجتمع التقليدي ، في ظروف الحرب العصرية لا تستمر أكثر من أعوام. وأيضا ً الحرب المعاصرة ليس لها سبب حقيقي آني، بل لها مهام محددة. الزمن التاريخي " الطويل" يتعرض للتركيز. في الوقت الراهن التاريخ التدريجي يمرعبر طريق النزاعات المسلحة الإقليمية ـ وهي الاستراتيجية الرئيسية في النظام الدولي الجديد في العالم المعاصر أحادي القطبية.
العولمة كواحدة من أهم الطموحات التاريخية للألفية الجديدة، جوهرها الأساسي هو إقامة حكومة عالمية موحدة بإملاء الأوليغارشيا العالمية. على عكس المبدأ المعروف، ليس " المليار الذهبي" مطلقا ً ، بل " الألفية الذهبية" للأوليغارشيا هي المؤهلة للازدهار في دولة المدينة الفاضلة العالمية. مليار إنسان، بحسب تحليلات نادي روما، هو العدد الأقصى لسكان الأرض، الذين جهّزت لهم الأيديولوجية السرية للعولمة الحياة: الآخرون ببساطة يخضعون " للاستعمال " بهذه أو بتلك الصورة. " المليار الذهبي"، خدعة أساسية لمنظري النظام الدولي الجديد، من أجل إغراء شعوب الغرب، التي ستؤدي دورها التاريخي، وبعد ذلك سيسري عليها نفس ما سرى على شعوب العالم الأخرى، تبعا ً لخطة " المعولمين" ــ فقدان الشخصية المطلق أمام وجه الظواهر الجديدة " للسلطويين العالميين"، الذين يخفون وجوههم في الوقت الحالي تحت أقنعة نادي بيلديربيرك،"واللجنة الثلاثية" و" لجنة 300 ". العولمة هي دولة المدينة الفاضلة الطوباوية، التي لن يكون فيها منتصرون، بل هي مصيبة المنتصرين!
العولمة، كما لو كانت فكرة فاشية تماما ً، تتخلل تدريجيا ً كل ميادين النشاطات الإنسانية. من الصعب تثمين دور وسائل الإعلام الدولية المعاصرة هنا. الوضوح الكامل الحالي، يشير إلى أن العدو الرئيسي للعولمة، هو الوعي القومي الروحي السياسي المرشد، إذ أن أية فكرة قومية لا مكان لها في الدولة العالمية الموحدة. هذه الروح القومية التقليدية يجب أن تموت من أجل إملاء فكرة دولة المدينة الفاضلة الطوباوية على الإنسانية، التي تتحول إلى " جموع"، لم تنزع منها فقط قوميتها وتقاليدها الأخلاقية، بل وحتى الأرض نفسها، " التراب" في الدولة العالمية "مترحل وليس ثابتا ً".
ما يُسمى بـ " الثقافة العالمية"، موجهة وقبل كل شيء، لتحطيم الثقافة القومية بهدف إقامة الحكومة العالمية التي توفر، في الظروف الحالية للنظام الدولي الجديد، تربة لاستلاب الإرادة العالمية. الإنسان الذي بدون وطن وبدون شخصية (المواطن العالمي) يصبح في هذه الحالة ذرة اجتماعية، بلا خصوصية حركية، يُقاد وفقا ً لمهام " المعولمين".
جوهر " تأميم " الإنسان كالتالي: كلما كان الإنسان " محررا ً" من الأخلاق القومية لشعبه، كلما كان أكثر " أممية" ومكتسحا ً من الداخل" بالثقافة العالمية"، كلما كان محطما ً وساقطا ًأخلاقيا ً " مُحررا ً"، " وبدون عقد" وغير ذلك)، كلما كان مُقادا ً مرتبطا ً بالخارج بالمغريات أو بالترويع ــ " العصا والجزرة". حرمان الإنسان من أساس الوجود الداخلي، وإفساده، من أجل إخضاع إرادته، وكبته عاطفيا ً ــ تلك هي استراتيجية"المعولمين"، الموضوعة في أساس آليات التأثير النفسي لوسائل الإعلام الدولية وفي " الثقافة العالمية".
يحمل ميدان تقدم التقنيات العالية أيضا ً في ذاته بصمات هذا العصر. إلى جانب الإغراء الرقيق للإنسان برفاهية المتطلبات الحياتية اليومية و تيسيرات (" الحلم الأمريكي") واستبدال المثل الروحية السامية بمثل المتع والمفاتن الصغيرة للعالم الهامشي ( خرافة " مجتمع الاستهلاك")، يتحقق النموذج الطوباوي بـ" المجتمع المعلوماتي"، الهدف الحقيقي الذي ينحصر في إقامة " معلوماتية" و " تحوّل كومبيوتري" عالميين، بحجة لائقة، يتخللان المجال التقني، بالطريقة التي يجب أن تحقق سيطرة شاملة فيما بعد على كل شخصية. البريد الالكتروني، الشبكة الدولية للمعلومات (الانترنيت)، بطاقات الائتمان، جوازات السفر الالكترونية، الشفرة الخاصة على السلع وصكوك التأمين، الرقم الضريبي الفردي، كل منها يُدرج في سوبر كمبيوتر عالمي "الوحش"، ـ كل ذلك أيضا ً يميّز الشكل المعلوماتي للعولمة، التي يجب أن تكون معلومات كاملة عن السياسات الخارجية، والمالية لوقع خطى عملية العولمة في العالم المعاصر. إقامة بيئة معلوماتية شاملة إلى جانب وسائل الإعلام الدولية، تمثل إحدى درجات عرش السيطرة العالمية، التي يُشيدها " المعولمون".
الحروب غير المحدودة تُسرع سير الحدث التاريخي. دخلت في ترسانة النظام الدولي الجديد أشياء، كانت تبدو، كما لو كانت "غير حربية" وهي وسائل لإدارة الحروب، مثل، الفيروسات الالكترونية، والمعلوماتية، والمالية، والحروب التجارية. تجري في المستوى المتخيّل الموازي دون توقف حرب إيديولوجية، مخربة، للدول الثقافية القومية بما يتمشى مع خطة " المعولمين"، التي هي ضرورية في المستقبل لخلق إنسانية متجانسة ومتشابهة إلى أقصى حد، تتكون من أناس ليوم واحد، يكون أفقهم الحياتي لا يمتد أبعد من المتطلبات المعلوماتية اليومية والفطرية التي تمضغها وسائل الإعلام الدولية و" الثقافة العالمية" ــ أي" الخبز والمنظر". لا يجب أن يكون "للذرة الاجتماعية" لا مستقبل ولا ماض: المهام الحيوية وتاريخه الخاص تركّز في أيديولوجية " الحكومة العالمية". مصير لا يحسد عليه، تماما ً كما في روح " أساطير القاضي العظيم" لدوستويفسكي ... عند إنشاء الحكومة العالمية الموحدة الطوباويون المعاصرون سيئوا النية يستعملون واحدة من القضايا، التي صرّح بها الكاتب ـ النبي في " الأسطورة": " الإنسانية منذ القدم شعرت بالولع بالوحدة"، إلا أنه قد حذّر من أن: الحاكم العالمي القادم، "الذي يرمم طريق المسيح"، سيكون مرشحا ً لسلطة دنيوية مطلقة كاملة، كما لسلطة روحية. العنف ضد الإنسان، وبالأخص في "الدائرة أو المجال" الأول، الممتاز، ستصبح التراتبية الحكومية فيه أكثر دقة بشكل متزايد. لكن هذا سيسمح له بالتوغل أكثر، عميقا ًفي الوجود الإنساني. " لا تخافوا من أولئك الذين يقتلون أجسامكم، خافوا أولئك الذين يقتلون أرواحكم..."
دعاية النظام الدولي الجديد يواصلون الإيحاء للناس بفكرة أن العولمة ضرورية، ويتم إملاؤها بفعل التقدم التاريخي نفسه. العولمة يطرحها منظرون، مثل البروفيسور، فوكوياما، على سبيل المثال، بمباركة " نهاية التاريخ"، حيث ستنتهي كل المنازعات بين الشعوب ويسود في النهاية القرن الذهبي، وحيث ستنتصر " القيم الإنسانية المشتركة". هكذا النهاية السعيدة للعالم بروح السينما الهوليودية ــ بداية الانفجار، والمطاردات، والعراك، وفي النهاية ــ كل شيء في غاية السعادة والرفاهية، البطل يقبّل البطلة، لوحة مغرية، هي في الحقيقة جذابة، لأنها في أعماق كل كائن إنساني يعيش أمل لأفضل لا ينفد.
لكن " نهاية التاريخ" هذه، غير معلوم، هل سنعيش نحن أم أولادنا حين تتحقق. هذه، يمكن القول عنها، إنها أرض الميعاد لأيديولوجي للعولمة، الهدف الحيوي لها ـ إقامة نموذج الرفاهية للنظام الدولي الجديد نفسه، الذي سيصبح مثل ذلك المجتمع العالمي للدول المتساوية الحقوق والمستقلة، من الحقير إلى العظيم، والذي ، في الحقيقة، من وقت إلى آخر، يبدأ في عرقلته أشرار منفردون، في صورة دكتاتوريين مثل صدام حسين، أنظمة إرهابية أو حتى دول سليمة و" غير متوقعة"، أي كل سياسي لا يدخل في مخططات النظام العالمي الجديد ، مثل، صربيا في عهد ميلوسوفيتش. وهكذا قام آنذاك بدور البطل الهوليودي السيد النظام الدولي الجديد نفسه، جيد، فتوجد لديه لهذا الغرض كل الوسائل ــ منظمة الأمم المتحدة العالمية كثيرة الاجتماعات الكلامية، وصندوق النقد الدولي المراهن العالمي، الذي يمكن الرهن فيه مقابل خشخشة " الدولارات"، كل ما يخطر على البال، حتى الأوطان. كما يوجد فرسان المائدة المستديرة ــ " مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى". وفي النهاية، لأكثر " الأشرار" عنادا ً يوجد دائما ً في اليد سيف دموي مرعب هو الناتو. وهكذا بين "عصا" الناتو و"جزرة" صندوق النقد الدولي تتفرع سياسة " النظام الدولي الجديد"، حامي الوضع الدولي الراهن. والبطل الرئيسي لأفلام الرعب الرخيصة، تؤديه في السياسة الدولية في الوقت الحالي، بلاشك، الولايات المتحدة الأمريكية، أو بالأصح، الأوليغارشية المالية الدولية، التي تعمل كأداة، تنسب إليها، الولايات المتحدة الأمريكية، ووسائل الإعلام الدولية، وآلة الدعاية العالمية، تلك "المآثر"، مثل حماية منظومة الحكم الديمقراطية في كل أنحاء العالم، وحقوق الإنسان والإنسانية، والحقوق المحلية والدولية، وحرية التعبير والمعلومات، واقتصاد السوق، والحرب على الإرهاب، وحماية البيئة وغير ذلك. تلك جهة لها صفة إعلانية خالصة ، جذاب مظهر قضاياها الخارجية التي تحملها( للحقيقة، في سياق الحضارة الغربية، أما الآخرون فلا يؤخذون في الحسبان). ترفق في كل حادث معين هذه الدعايات بالسياسة العالمية للنظام الدولي الجديد ويظهر، أنها ــ مظهر فقط، مؤثر صوتي يخفي حقيقة الواقع السياسي. هل يمكن إخفاء الجدل الديمقراطي حول " حقوق الإنسان" بركام صربيا، أو مئات الآلاف من المدنيين الذين قتلوا، في أثناء الغارات الجوية على العراق .. دمهم البرئ يتصاعد إلى السماء، وهنا لا تساعد ولا أي سفسطة يهودية مزيفة عن " القيم الحضارية" على الكوكب، من له عيون فلير.
هكذا، كل ما تلمسه، كل السياسة العالمية للنظام العالمي الجديد، متأسسة على مبدأ " الثواب والعقاب"، تغطى بالنفاق الديماغوجي وتكتيك " الكيل بمكيالين"، أما في الواقع فتتحرك تبعا ً لأهداف المصالح الحقيقية المضبوطة منطقيا ً من قبل " المعولمين"، من أجل الإنجاز الذي قد يكون قد تمّ ( وقد تم أكثر من مرة) أي الجريمة البشعة ضد الإنسانية. الأوساط السرية، التي عنها الآن نحن نتكلم توجد "في الجهة الأخرى للخير والشر"، هذا يعني معنويا ً عدم المسؤولية، فما همهم بـ " دموع طفل"!
ما يُسمى " الدول النامية" تطبق أيديولوجية العولمة لمصالحها الخاصة. الدول الأخرى تشترك في الهياكل العالمية، كقاعدة، بشكل ثانوي، لأداء دور ثان أو ثالث ــ قدرتهم على الوصول يحدها توريد المواد الخام والمصادر البشرية، بما في ذلك " لحم لمدافع" الحرب. بدرجة ما العولمة في المرحلة المعاصرة هي استمرار للإمبريالية الجديدة لكن " الدول النامية نفسها" بدورها تتحوّل في عمل الشركات متعددة الجنسيات، إلى آلة رئيسية تخدم الأوليغارشيا الدولية، بما أن حدود هذه الدول تمحى بشرط شاذ هو أن الشركات متعددة الجنسيات، بحسب درجة الفائدة التي تجنيها، تساعد الدولة، بينما هذه الدولة تأخذ في حساباتها مصالح الشركات متعددة الجنسيات في سياساتها. لكن قوى العمل الرئيسية، التي تغذي النظام الدولي الجديد، بلاشك، كانت وتبقى نظام الإقراض المالي العالمي. الحروب تستدعيها، وقبل كل شيء، دواعي تنشيط التدفق المالي، التي تحتضن العولمة الاجتماعية.
في ظروف عالم أحادي القطبية من المستحيل حدوث حرب عالمية. ومع موت الاتحاد السوفييتي أصبح ميزان القوى تحديدا ً بهذا الشكل: أمريكا تعتبر " الضامن" الرئيسي للنظام الدولي الجديد ومرشد العولمة. من هناــ استراتيجية " النزاعات الإقليمية" هي أساس النظرية العسكرية للجغرافيا السياسية الجديدة. الحقيقة، المواجهات التي تجري في بعض المناطق بين الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الأوروبي ــ وقبل كل شيء بسبب استقواء ألمانيا الموحدة من جديد وظهور العملة الدولية الجديدة " اليورو" ــ الخيار البديل عن الدولار المتهاوي ــ يعطي مبررا ً للحكم على إمكانية انشقاق الوحدة الغربية. وعدم التناسق هذا في صفوف " العالم الأول"، أنوية النظام الدولي الجديد، يمكن في السنوات القريبة أن يجتذب إلى نفسه تغيرات متناقضة وغير متوقعة في موازين القوى الجيبوليتيكية.
أمريكا، بالأخص بسبب هذا الانشقاق الواضح، تعزز وجودها العسكري في القارة الأوروبية ( بجانب ضعف موقف روسيا على المسرح الدولي)، قبل كل شيء في دول الاتحاد السوفييتي السابقة، وأفغانستان وباكستان، وأيضا ً تعزز نفوذها بقوة في دول " نمور شرق آسيا " ــ وفي اليابان، وكوريا الجنوبية ــ ومن خلال إتباع سياسة مرنة للتنازلات المتبادلة مع الصين.
عدوان الولايات المتحدة الأمريكية على العراق له استمرارية مستقبلية لاحتلال المناطق النفطية في العربية السعودية، وهي احدي الدول العالمية التي تمسك بودائع الدولارات ( هدف التدخل ــ هو استقرار وتقوية الدولار) و المورد الأساسي لـ" الذهب الأسود" في أوروبا، والسعودية من الممكن أن تصبح في النهاية رهينة " لسياسة المعتدي النفطية". هذا بدوره أيضا ً، يُضعف موقف روسيا كمصدر للنفط، الذي سعره سوف تمليه الولايات المتحدة الأمريكية. إسرائيل لها مشروعاتها المستقبلية ــ بشكل جذري اللوبي القومي الحكومي يخطط لطرد جماعي للشعب الفلسطيني إلى المناطق المحتلة في العراق. بهذا الشكل، في القريب العاجل، خريطة العالم وموازين القوى فيه يمكنها أن تتغير إلى حد لا يمكن التعرف عليها. من الممكن أن تجري أكثر التغييرات جذرية في لب هيكلية النظام الدولي الجديد.
" اليورو"، العملة، البديلة الكونية في ظروف الدولار الحالية، منذ البداية خطط لها لتكون كأداة للاحتياط المالي للاقتصاد المُعولم. الولايات المتحدة الأمريكية التي تستهلك ما يقارب 60 % من الموارد العالمية، بدأت، هذه الموارد، تكلّف الأوليغارشيا العالمية غاليا ً جدا ً. علاوة على ذلك، الشعور القومي الأمريكي كإيديولوجية تقض مضجع طوباوية العولمة العالمية، لذلك الأوساط العليا للنظام العالمي الجديد أجمعت على المراهنة على الوحدة الأوروبية، حيث ما يسمى بمنطقة شنغهاي تعتبر مثل نموذج، شكل ما لمستقبل الحكومة الكوكبية الموحدة تحت حماية الظاهرة الجديدة " محاكم التفتيش العظيمة ". وبالأخص " أوروبا الموحدة" يجب أن تصبح مرجلا ً، حيث تصهر في الدور الأول، مكونة مركبا ً من الشعوب والحكومات معا ً مع الحدود والثقافات القومية، لأجل النظام الدولي المستقبلي. المرحلة النهائية للعولمة يجب أن تصبح تحول شامل إلى النقود الآلية، الأمر الذي يجعلها في المحصلة شفافة لدكتاتوري المعلوماتية العالميين، وسط الكمبيوترات وجوازات السفر الالكترونية ـ والبطاقات التي تعني في جوهرها، السلطة المطلقة والسيطرة على كل " مواطن عالمي ". على هذا الشكل، بدون تزويق، العالم القادم الذي يُشيد سيصبح مفتشا ً عظيما ً، هكذا يتخيله منظري العولمة.
يُعتقد أيضا ً، أن كارثة 11 سبتمبر عام 2001 م، علاوة على الهدف الاستفزازي بالمقياس العالمي، كانت في الوقت نفسه عملا ً رمزيا ً، أملته الرغبة في استهداف ضرب رمز العظمة والقوة القومية الأمريكية في العالم المعاصر أحادي القطبية، مشددا ً في هذا الشكل المتوحش، على زعزعة القوة الأمريكية الحالية.
على الرغم من أن أيديولوجية العولمة المعاصرة، يجري الحديث عنها منذ عشرات السنين، إلا أن وجهها الحقيقي بوقاحة أميط اللثام عنه في السنوات الأخيرة فقط، من خلال تلك الوقائع، مثل قصف العراق وصربيا وأفغانستان. انبثق في أحشاء عملية العولمة بالخصوص، شكل جديد للحرب، التي تشن من مسافات بعيدة بأسلحة عالية الدقة، لا تدع للدولة ــ الضحية أي إمكانية للمقاومة، إضافة إلى أن المعتدي نفسه لا يخاطر بأي شيء عمليا ً، ويبقى بعيدا ً عن مجال النيران. لا تُحطم الأهداف العسكرية فقط ، بل والمدن المدنية وكل وسائل الحياة والبقاء، تُحطم ــ كما حدث ذلك في صربيا والعراق ــ كل بُنى الدولة التحتية. في مثل هذه الحرب، عادة، لا يوجد أسرى، وفي النتيجة، تفقد أية اتفاقية دولية أية قيمة لها عن قواعد الحرب، هنا المواثيق الإنسانية تصبح عديمة التطبيق، أو أن يتجاهلها " المجتمع الدولي" عمدا ً.
" حق الأقوى" ــ هذا هو المبدأ الأساسي " للنظام الدولي الجديد" إلى جانب سياسة " الكيل بمكيالين" . دُمر العراق أول مرة عند محاولته ضم الكويت. تركيا، عضو الناتو، غزت شمال العراق ــ وقد مرّ ذلك دون عقاب. هذه هي تركيا نفسها التي احتلت شمال قبرص، محدثة هناك تطهيرا ً عرقيا ً، و" المجتمع الدولي"، بدوره، مرة أخرى، " لم يلاحظ ذلك". إسرائيل لسنوات احتلت جنوب لبنان ــ ولم تُفرض عليها أحد أية عقوبات، بينما حركات المقاومة "الجهاد" و"حزب الله" وضعتا بسرعة في " قائمة الإرهابيين السوداء". العراق طبّق قرارات منظمة الأمم المتحدة ــ وتعرض للحصار. الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ببساطة تجاهلتا قرارات منظمة الأمم المتحدة ــ ومرّ الأمر بسلام.
وفقا ً لمبدأ النظام الدولي الجديد دول " العالم الثالث" عمليا ً تفقد حق الاستقلال وحق الحماية من الغزو الخارجي. يسيطر في حكوماتها في كل المجالات لوبي " النظام الدولي الجديد"، وحسب هواه يعين هؤلاء الرؤساء أو أولئك ويقيم الأنظمة الحاكمة، بينما غير المفيدين يزاحون بأية وسيلة، ويصل الأمر إلى الاختطاف أو القتل الذي يمارسه عملاء الأجهزة الاستخباراتية العالمية. " حقوق الإنسان" لا تساوي شيئا ً في " العالم الريفي الثالث"، وهي تستعمل فقط كحجة للهجوم وللتدخل في الشؤون الداخلية.
منع دول " العالم الريفي الثالث" من حل مسائل استراتيجياتها العسكرية الخاصة أو تحديث السلاح يبرر " بمنع انتشار أسلحة التدمير الشامل والتقنية العسكرية المتطورة". هذا يسمح للدول الأقوى ــ حصن النظام الدولي الجديد ــ باحتكار أعقد الوسائل العسكرية العلمية لإجراء الحرب، تاركة الآخرين عمليا ً بدون حماية. على سبيل المثال، لمقاومة صاروخ " توماهوك" وطائرات " الشبح"، الأسلحة التقليدية للدفاع الجوي غير ذات جدوى، والوسائط الأكثر عصرية للدفاع الجوي لا تباع للدول غير المنضوية في حلف الناتو، أو ببساطة يتم تعطيلها في اللحظة المناسبة ــ كما فعلت فرنسا مع 800 صاروخ "إكسوزيت"، كانت قد باعتها في البداية للعراق، وفي أثناء " عاصفة الصحراء" أعطت شفرتها الالكترونية للولايات المتحدة الأمريكية. بنفس الطريقة تصرّف غورباتشوف مع التجهيزات السوفيتية. نجري مقارنة بهذا الخصوص للتوضيح، في السابق فيتنام استطاعت إسقاط 4000 طائرة للولايات المتحدة الأمريكية، منها 2400 ــ بواسطة أسلحة الدفاع الجوي السوفيتية.
يحرّم على دول العالم الثالث، بمساعدة نفس هذه الحجة " حول عدم انتشار الأسلحة"، أن تقوم بنفسها بتصنيع وسائط دفاع جوي أكثر تطورا ً وفاعلية. الناتو، بعد أن أنهى عدوانه ضد صربيا، هدد بعنف كوريا الشمالية ( الدولة التي لم تخض أية حرب منذ عام 1953 م)، عندما "تجرأت" على تجربة صواريخها الخاصة. في حالة أخرى، على العكس، الدولة الصغيرة جدا ً أبو ظبي تُرغم على إعانة منتجي الأسلحة الأمريكيين ــ الدولة اشترت الأسلحة بملايين الدولارات، وهي في حالة لا تسمح لها باستعمالها بإمكانياتها الخاصة.
حق تقرير المصير يُمنع حتى في المجال الروحي الأيديولوجي، هنا أيضا ً تظهرمملكة " الكيل بمكيالين". إيران بعد ثورة الخميني الشيعية كانت قد تعرضت لثمانية أعوام من الحصار وجُرت إلى حرب مع العراق بحجة التطرف الأيديولوجي الإسلامي. غير أنه، بالنتيجة الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان ساندت طالبان، الحركة التي أقامت نظام حكم أكثر تطرفا ً بما لا يقاس، وهو نظام حليف لباكستان، وتستعمله كقاعدة للتأثير على دول وسط آسيا التي كانت تتبع الاتحاد السوفييتي. تلك هي طالبان التي كانت ترسل المخدرات لتمر بموسكو، ناشرة وباء المخدرات في مدن روسية كاملة، وهي المساندة للارهابيين الشيشان ــ هذا كان بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية منطق مقبول. في الوقت نفسه، الحليف الأساسي للولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الخليج، المملكة العربية السعودية، تعتنق المذهب الإسلامي الأكثر عدوانية ــ الوهابية، وتوجه " مبشريها" إلى " المناطق الساخنة" ــ الشيشان، القوقاز، آسيا الوسطى، أفغانستان والباكستان ــ أمريكا لم تلق أي اهتمام في السابق لذلك أيضا ً. تلك هي علاقات الولايات المتحدة الأمريكية، الأداة الرئيسية للنظام الدولي الجديد، المتناقضة حدّ الغرابة، مع المتطرفين الإسلاميين، فالذي ينفع في عرفها ــ يتم استخدامه.
ولنأخذ مشروع المخابرات المركزية الأمريكية المعروف باسم (كــ ــ 546) " التنمية الديموقراطية لكوسوفو"، الذي أخذ في الحسبان " استراتيجية إعادة البناء بهدف إقامة نظام إسلامي عدواني، بتوجه أمريكي واضح المعالم". المخابرات الأمريكية، كانت تحضر منذ عدة سنوات، للعدوان ضد صربيا، مغمضة عينيها عن العلاقة الحميمة التي كانت تربط بين منظمات الألبان العسكرية وبن لادن.
القانون الدولي أكثر فأكثر يصبح " مائعا ً". في المفهوم التقليدي هذه الكلمة تعني أنه مات " دون أسف، وبدون مجد"، بالصواريخ المتنوعة المتفجرة التي سقطت على العراق، وبتلك التي دمرت يوغسلافيا.
هكذا " النظام الدولي الجديد" في شخص الولايات المتحدة الأمريكية أعطى وسيعطي دعمه المالي والعسكري لإسرائيل، التي غزت لبنان لأعوام، قابضة هناك على " مناطق أمنية"، قاصفة له حسب مشيئتها، غير عابئة بقرارات منظمة الأمم المتحدة، وهي التي تحتل الضفة الغربية لنهر الأردن، مخالفة لأبسط حقوق الإنسان الفلسطيني، ولم تنفذ الاتفاقيات، الموقعة في أوسلو، وكانت قد قصفت المقر الرئيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية في تونس، وحطمت محطة الطاقة النووية العراقية أوزيراك . تركيا والولايات المتحدة الأمريكية ساندتا الارهابيين الشيشان. المخابرات المركزية الأمريكية جهزت الارهابيين الألبان في كوسوفو. الولايات المتحدة الأمريكية نفسها عن طريق الغزو المسلح خرقت السيادة الوطنية في غرينادا وبنما وفي العراق وغيرها.
المحكمة الدولية، عمدا ً، كانت قد أعدت خصيصا ً لمحاكمة الصرب. الكروات والمسلمين حاكموهم أقل وأخف كثيرا ً، فقط من أجل إخفاء محاباتهم. ما هي التعويضات التي حصل عليها التبت عن الجرائم التي ارتكبتها الصين؟ أو التي حصل عليها المزارعون البوليفيون، المتضررين من حملة الولايات المتحدة الأمريكية لابادة المخدرات؟ أو 3 آلاف بنمي، قتلوا أثناء هجوم الولايات المتحدة الأمريكية للقبض على الرئيس البنمي نورييغا؟ ها والعراقيون، الذين قتلوا في قصف روتيني ما، أتخذ من دون أي مبرر، وبهدف وحيد ــ الرفع من شعبية الرئيس كلينتون قبل الانتخابات، وفي الوقت نفسه إلهاء الأمريكيين عن فضيحته مع مونيكا لوينسكي؟ هكذا أيها السادة يضحك الشيطان على الترويع والتزلف " الإنساني"...
المسؤولية القانونية " للقانون الدولي" في الوقت الراهن لا تسري على موظفي المؤسسات الدولية للنظام العالمي الجديد، التي يمكن أن تسبب قراراتها خسائر جسيمة لدولة أو شعب ما. إذا ما كان لدولة دين خارجي، ولا تستطيع تسديده، فإنها تسقط في عبودية صندوق النقد الدولي أو البنوك الدولية الأخرى. سياساتها الاقتصادية المستقبلية يحددها مبعوثون، يراعون مصالح الأوليغارشيا الدولية للنظام الدولي الجديد. غالبا ً ما تقدم البنوك الدولية علاوات للموظفين الحكوميين، جاعلة لنفسها "وكلاء نفوذ"، يتبعون سياسات اقتراضية نافعة للبنوك. أحد الأمثلة الساطعة لذلك ــ روسيا. هكذا " المنقذون" الماليون الأجانب يمكنهم قتل أغنى لدول، بينما الثروات الطبيعية تدريجيا ً تخضع لسيطرة أو لملكية قوى خارجية، وفي المقام الأول، للشركات متعددة القوميات، ولوكلاء الإمتيازات، ولمشتري الأسهم أو للمستفيدون من الخصخصة، و الدخول المتأتية عن طريقها تحول إما إلى بلد المستثمر، أو إلى مناطق التجارة الحرة ذات الضرائب المنخفضة. في المحصلة البلد الحاضن يبقى بدون ثروات وفي وسط بيئي موبوء. وفي النهاية، من أجل "توسيع " تجارة و" تنمية" هذه الدول، تتخذ إجراءات مضادة لسياسات إغراق الأسواق بالبضائع، كما كان ذلك بخصوص الحديد والصلب الروسي، والأوكراني والكازاخي.
هكذا تفقد الدولة سيطرتها بالضبط على كل الإنتاج، والتقنية، والاتصالات وكل أنواع الخدمات، بدءا بالماء و الكهرباء وانتهاءا بالتلفزيون، فهي أيضا ً ستصبح تحت سيطرة الشركات متعددة الجنسية. وفي مجال شبكات الاتصالات الحالة أكثر خطورة.
على الرغم من التشريعات المضادة للاحتكار، يتوسع في عالم الكمبيوتر، عالميا ً نفوذ مالك شركة ميكروسوفت، غيتس. في هذا المجال، كما في شبكة الانترنيت، العولمة يمكن اعتبارها واقعا ً منجزا ً، وأية رسالة أو اخبارية يمكن أن تحفظ وتستهلك بعد ذلك ضد الإنسان. تتغلغل تقنية الكمبيوتر والبرمجيات على المستوى العالمي، وهذا يعني، من الناحية الاستراتيجية، أن اتصالات الأقمار الصناعية، ووسائط الانترنت والكمبيوتر، يمكن، منذ البداية أن يتم التحكم بها من قبل قوى خارجية.
حرية التجارة تصبح ملزمة، هذا ميدان آخر للمعركة، اليابان، على الرغم من العضوية في " السبعة الكبار"، أجبرت ليس فقط على شراء الشرائح الالكترونية والسيارات، التي هي ليست في حاجة إليها. لكن هذه حال اليابان، الدولة الغنية والمتقدمة، أما دول " العالم الثالث الريفي"، فالحالة فيها تصل إلى درجة العبث ــ " الذين لا يمتثلون" يُغرمون. دولة " العالم الأول" لأول مرة، تطلب تعويضات عن سلعة معينة، لم يتم الحصول عليها منها، بل من منافس. هذه هي (وقاحة) السوق العالمية المعاصرة.
الدول لا تستطيع بنفسها أن تحدد سعر السلع المصدرة، على الرغم من " الحرية" المزعومة، ولا سعر السلع المستوردة، وذلك لأن السعر العالمي من صلاحيات سوق دولي مغفل التسمية. يمكن أن تتحصل في اليوم التالي على مقابل نفس الخامات أو العمل على جزء فقط من المبلغ، الذي تحصّلت عليه قبل يوم. غالبا ً ما يستحيل الامتناع عن البيع بالسعر الأدنى، لأن الإنتاج والتوزيع موجودان بشكل تام تحت سلطة الشركات متعددة الجنسية. غياب المنافسة في الأسعار، يعني أن الدولة لا تتحكم في دخلها من العملات، وهذا يعني، أنها لا تتحكم في اقتصادها نفسه.
النظام الدولي الجديد عمليا ً يهيمن على المستوى العالمي. سياسة ¬ خفض الأسعار إلى درجة التأثير الصاخب، تخفي سلطة المحتكين غير المرئيين. القيام بنشاطات حكومية مستقلة داخلية وخارجية في هذه الظروف تصبح بلا معنى حتى بالنسبة " لحيتان" العولمة الدولية، كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. الحكومات الديموقراطية تعتبر في أيامنا مجرد واجهات براقة، تخفي تحت طياتها نشاطات الاتحاد السري للأوليغارشيا المالية العالمية، التي تُملي " قواعد اللعب" في جميع أنحاء العالم وفي كل الميادين، وقبل كل شيء الميادين المالية والعسكرية. المواجهة بين الغرب والعالم السلفياني لها تاريخها القديم، وقد دُفع بها في الظروف الحلية إلى درجة التوتر. ويُعتقد أنه ما تزال المعركة الرئيسية مؤجلة الى وقت لاحق.
كثيرون من كتّاب دول الاتحاد السوفييتي السابق أشاروا إلى أن المأساة في يوغسلافيا تعتبر استمرارا ً لآلاف السنين من صراع الغرب ضد العرق السلافياني، أي الكاثوليك والبروتستانت ضد الأرثوذكس. هكذا أعتبر، أن ميلوسوفيتش ورث سلسلة حروب استمرت قرون ضد القبائل الألمانية في القرن العاشر الميلادي.
أراد الغرب بقوة محاكمة ميلوسوفبتش. هيهات أن يكون الرئيس الصربي مهم لهم بشخصه ــ كان من الضروري إحداث سابقة قانونية، تضع قائد دولة تحت سلطة المحكمة، ليس فقط بالقانون الداخلي لدولته، بل و "بعدالة" " النظام الدولي الجديد". بالإضافة، حسب ما يقول خبير قانوني، الولايات المتحدة الأمريكية تمنت اعتقاله ومحاكمته، لكي تبرئ قصف الناتو البربري، الذي كان مطلوبا ً للبنتاغون، بما في ذلك من أجل " تنظيف" ترسانتها القديمة، كي تملأها بالأسلحة الجديدة فيما بعد، أو كما تصرف البريطانيون " باستعمالهم" للقنابل، التي أجهزتها الإلكترونية لا يمكن أن تعمل بعد عام 2000 م، واستبدالها بالأكثر تقنية. كما كان من الضروري لهم فحص القدرات الحربية الفنية للجنود وتجربة أنواع جديدة من الأسلحة. منتج واحد فقط للصاروخ المجنح " توماهوك"، أمّن لنفسه عقود بملايين الدولارات، بنتيجة ذلك أصبح 2000 شخصا " بالحقوق الإنسانية" جثتا ً! وميلوفيتش مذنب في كل ذلك؟ وإذا ما تطلب الأمر في مرة قادمة استبدال " موجودات" أدوات الموت، على من سيسقط السلاح المرعب؟ وعلى من ستتم تجربة الأسلحة الفائقة السرية الزائدة عن الحاجة في الترسانة الكيميائية والبيولوجية، التي تنتج في مواقع تحت الأرض في نيومكسيكو؟
لكن، فلنعد إلى " عدالة العولمة". المحكمة يستخدمها النظام الدولي الجديد كأداة مؤشرة للبحث عن قادة "غير مرغوب بهم". هنا يتعرض المتهمون لتعذيب " إنساني" مثال ذلك: اجراءات لا نهائية، تنهك المصادر الحياتية والأعصاب للمتهمين وأقربائهم، أو التمييز كما على سبيل المثال، " العرض التربوي" لبينوتشيت. هذا، في النهاية، يمثل معاناة دول وشعوب كاملة ــ من أجل تقديم ميلوسوفيتش للمحكمة، دُمر نصف يوغسلافيا. الجمعية العامة للأمم المتحدة، على مدى العدوان المفتوح، التزمت الصمت، وبعد ذلك بقليل، تقديرا ً لهذا " الصبر"، الكونغرس أقرّ تسديد الدين الأمريكي لمنظمة الأمم المتحدة ــ حوالي مليار دولار( سياسة عدم التسديد سابقا ً اتبعت كعقاب للتصويت المعادي لأمريكا في الجمعية العامة للأمم المتحدة).
مهما كان الحال، من أجل الاحتفال بالانتصار على يوغسلافيا، اجتمع زعماء " السبعة الكبار" المختالين، في البدلات الأنيقة، على العشاء، في كنيسة مدينة كيولنسك، في يوم ميلاد القديس إيوان. وضعت في الوسط طاولة زجاجية مستديرة، رسم عليها مثلثات، تخرج منها أشعة، وقبل دقيقة من ذلك عرض التلفزيون فتاة صربية، كانت مقطوعة الساقين...
من الضروري القول، إنه بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 م، حالة الإنسانية ساءت مرات عدة. الرئيس الأمريكي بوش، صرّح بأن ذلك كان " هجوما على الحضارة"، على الرغم من أن المقارنة بان " الولايات المتحدة الأمريكية = الحضارة" غير مقنعة، إلا أنه صاغ قاعدة أيديولوجية ــ " من ليس معنا، فهو ضدنا". التأويل المحرف لهذا القول المأثور للمسيح أدى في وقته إلى ملاحقة الهراطقة، والى إقامة محاكم التفتيش. " حماية الحضارة" من فم إنسان، بأمره المباشر تمت إبادة آلاف وآلاف الحيوات، وتحطيم مصائر الملايين، وتدمير المدن والبلدان... كلام الرئيس الأمريكي ينم عن، نفاق، في أقل تقدير. إذا كانت هذه هي الحضارة، فهي حضارة مجنونة وعدوانية، والشيطان هو والدها!
توجد ثنائيات حضارية متناقضة، مثل فيلاسكيس ومحاكم التفتيش، موليير وروبسبير، بيتهوفن وهتلر، الإنجليزية هارتيا فولنوستي والجوع الصناعي في ايرلندا، التقدم العلمي والقنبلة النووية، حرية التجارة وحرب الأفيون، إعلان الاستقلال وإبادة الهنود الحمر، إعلان حقوق الإنسان وتجارة الرقيق. إذن أوضح يا سيادة الرئيس ، أي الحضارتين تقصد ؟

ترجمة: د. محمد الطاهر الحفيان

تأليف: ناديجدا بارتسوفا

مجلة: معاصرينا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...