2010/02/06

تقاليد إعجاز القرآن

Photobucket

من المعلوم تاريخيا تنوع الصيغ المعارضة للقرآن من جانب العرب الوثنيين. وهي معارضة تناولت شكل الوحي القرآني ومضمونه، وتميزت بدورها بين التشكيك، والجزم، والحيرة في مواقفها من القرآن تارة، ومن النبي محمد تارة أخرى، إذ وصفوه بالكاهن، الساحر، المجنون، الشاعر، المسحور. بينما اعتبروا القرآن شعرا، وأساطير الأولين، وسحرا.
هذه الأحكام كانت تعبيرا عن الدهشة العميقة أمام "نص غريب" يبشر بدين جديد يهدم معتقد الأجداد، متحديا إياهم ببيانه وفصاحته. فمن جهة نراهم يستغربون أن يرسل الله رسولا يأكل ويشرب ويمشى في السواق، ومن جهة أخرى يستغربون عدم غناه وتميزه:" وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا انزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها "الفرقان(7 – 8)
ولهذا اعتقدوا أن بإمكانهم محاكاة القرآن، والإتيان بمثله:" وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين" الأنفال(31)
قدرة النص القرآن على التحدي، تمثلت في عجز القرشيين على اتخاذ موقف محدد منه، ناهيك عن تقليد القرآن كله، أو عشر سور، أو سورة واحدة، كما دعاهم النبي محمد إلى ذلك: " قل لإن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " الإسراء(88 )
"أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشرة سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين"هود(13)
" وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين"البقرة(23)
وقد أدى الصراع في نهاية المطاف إلى سقوط دعاوي "الجاهلية " واقتناع أعداد متزايدة من الناس بالدين الجديد. من هنا ارتفعت الحواجز التي حاول القرشيون وضعها أمام "سحر الدعوة الجديدة"، وانهارت مقاومتهم، وبدأ النص القرآني يكتسب قيمته وتأثيره "ألإعجاز"، وأخذت تظهر علامات الانبهار الايجابي به عوضا عن التردد والحيرة. الأمر الذي جعل شاعرا كبيرا مثل "كعب بن زهير" بعد إسلامه يقرأ آيات من القرآن، عندما طُلب منه أن يلقي شعرا، كاعتراف بقيمته كنص رفيع ومقدس. من هنا ابتدأ تاريخ التعاطي مع النص القرآني، ومحاولة تفسيره كنص مقدس، يتطلب اجتهادا خاصا، لفهم أسرار إعجازه وتأثيره "الساحر"، فنشأ نشاط فكري حول النص القرآني، دعت إليه بادئ ذي بدء، دوافع دينية إيمانية. فكان بروز الفقه بعد توسع رقعة الإسلام وانتشاره بين أمم عدة، لاعتبارات سياسية واقتصادية واجتماعية. فقد حُسم الصراع الأول لصالح الدين الجديد، والتسليم بالقرآن، ثم اخذ الصراع لاحقا ينتقل إلى الميدان الفكري، باعتباره استمرارا جديدا وتعميقا نموذجيا للعقل والإيمان.
جسّدت الحضارة الإسلامية بمعنى ما القرآن، إذ استمدت روحها منه، كنص عقائدي تشريعي، ومن خلاله بدأت الحركة الفكرية الإسلامية انطلاقتها، فقد تحول القرآن إلى كتاب جامع للحقوق، ومنظم للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وظل مع ذلك يحمل في طياته صورة المعجزة البيانية.
هذه الطبيعة الخاصة للنص القرآني، استوجبت التفسير والشرح في الدرجة الأولي بالاستعانة بالسيرة النبوية، أي الأقوال والأفعال التي قام بها النبي خلال حياته، والتي حرص المسلمون على تدقيقها وتدوينها لاحقا من خلال أئمة وفقهاء كبار أمثال .. أبو حنيفة ( 767 – 700م)، مالك بين أنس ( 713 – 795م)، الشافعي (767 – 820 م)، أحمد بين حنبل (780 – 855م).
هذه الحركة الفقهية الكبيرة أنتجت المذاهب (السنية)الأربعة: المالكية، الحنفية، الشافعية، والحنبلية. ورافق ذلك أيضا ظهور وتطور علم الكلام، الذي يعرفه التفتازاني بقوله : " لما ظهر اختلاف الآراء بين المسلمين… اشتغلوا بالنظر والاستدلال، وسموا ما يفيد معرفة العقائد عن أدلتها بالكلام، لأن عنوان مباحثه كان قولهم الكلام في كذا وكذا … ولأنه يورث قدرة على الكلام في إلزام الخصوم كالمنطق للفلسفة"[1]
ونعثر في علم الكلام على تطور نوعي فكري في شكل مجادلات نظرية ارتبطت بأقدار متباينة بعقائد الإسلام. في هذه الفترة دخلت الكلمة القرآنية دور الاستخدام العقلي الفكري، فإذا كانت أولي دواعي الأئمة والفقهاء لجمع الأحاديث النبوية، ووضع تفاسير للقرآن، هي دواعي حياتية وتشريعية، فان ألفاظ القرآن أعطت إشارات أبعد وأكثر غنى (وبالأخص في علم الكلام) حول مواضيع مختلفة مثل خلق أو قدم القرآن، ورؤية الله في الآخرة، ومسائل صفات الله، والاختيار والجبر، والجوهر والعرض، وتكوين المادة، وقابلية التجزؤ إلى ما لانهاية وغيرها، وهي معاني جديدة متنوعة أنتجتها "قراءات" مختلفة للنص القرآني ضمن مناهج مستحدثة، فالقرآن نص يختزن معاني خفية ما ورائية ضمن "مزايا " الإعجاز البلاغية. وهي قراءات شكلت بحد ذاتها انتقالا من البيان في الكلمة الحسية إلى البرهان في الكلمة العقلية. وترتب على ذلك صياغة مبادئ جديدة للنظر في إعجاز القرآن، وتفسيره بأبعاد فلسفية.
تحوّل الكلمة الشفوية إلى كلمة مكتوبة بالقرآن، تبعتها خطوات هامة في مجال الدراسات اللغوية، لاستنباط قواعد وقوانين النحو والصرف، وضبط الأساليب والفنون الأدبية، ما أتاح للغة العربية استكمال استقرارها وتكوينها. وبالتوازي نشطت الدراسات حول إعجاز القرآن بالاستعانة بأدوات البحث اللغوي والأدبي والفقهي، فبعد تدوين القرآن في مصحف واحد، وجمع الأحاديث النبوية، نشأت حركة أدبية تعنى بالشعر الجاهلي. أتاحت هذه النشاطات الأدبية والفقهية تكامل الدور الإيماني للكلمة القرآنية، والدور العقلي لعلم الكلام، حيث أخذت رؤى وأفكار النص القرآني تنفتح أمامها آفاق واسعة، بفعل مناهج وقواعد المدارس الإسلامية المختلفة: الرواية، والدراية، والنقل، والعقل والحديث، والرأي. وكان ذلك محصلة معاني جديدة عقلية وفلسفية، لذا اتخذ دور الفقهاء والعلماء أبعادا إلهامية جرى وضعها في الحديث القائل:"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة، من يُجدد لها دينها"، ولا يعني (تجديد الدين) سوى الاجتهاد العقلي ضمن حدود وقواعد الشريعة الإسلامية، على اختلاف مواقف المدارس والاتجاهات الفقهية منها . لهذا فالاستعمال العقلي للكلمة القرآنية مرتبط أساسا بالبيان في النص القرآني، "والبيان" قدّم بواعثه واستنارته للبرهان العقلي الاجتهادي تجاه النص القرآني.
إن حركة" التجديد الديني " ولاجتهاد الإسلامي، وإن استمدت أصولها من منابعها واحتياجاتها الذاتية، إلا أنها لم تكن معزولة عن التفاعل مع الفكر الإنساني، خاصة مند فترة حكم الخليفة العباسي (المأمون) (813 ـ 833 م )، التي شهدت حركة الترجمة خلالها نشاطا مركزا، نُقلت فيه أمهات الكتب عن اللغات العريقة، خاصة اليونانية. والجدير بالذكر أن نشاط الترجمة قد ابتدأ قبل هذا التاريخ، منذ عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (717- 719 م)، في إطار فردي ضيق. الأحداث التاريخية الكبرى أثرت أيضا في هذا التفاعل الحضاري الفكري منذ "الفتنة الكبرى"، بالصراع المسلح الداخلي بين الخليفة علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، وتأسيس الدولة الأموية عام 661 م، على النمط الإمبراطوري الوراثي.. وما تلى ذلك من تحولات سياسية اجتماعية فكرية، أدت إلى نشوء الدولة العباسية عام 750 م. هذه الأحداث والمستجدات الكبرى، وما صاحبها من تغيرات اقتصادية واجتماعية وسياسية، انتقلت بالمجتمع البدوي الصحراوي (مجتمع الضرورة) إلى المجتمع الإمبراطوري متعدد الأعراق والبيئات والنشاطات الاقتصادية (مجتمع الرفاهية). هذه الخطوات الواسعة ساهمت في الدفع بالحركة الفكرية ونشاطاتها العقلية الباحثة في النص القرآني المقدس، عن أفكار ورؤى وحلول تواكب تعقيد ومشكلات الحياة وظروفها المستجدة.
البحث في أسرار إعجاز القرآن كان أحد الاتجاهات المؤثرة في انطلاق الاجتهاد العقلي وتحقيق إنجازاته بروحية بواعثه، وشرعية دوره الإيماني، وارتكازه على الكلمة المقدسة. ومن ثم توفر الظروف والأدوات والأفكار التي أنتجت علما وفكرا حقيقيين، ورسخت مبادئ عقلية بطاقة روحية صهرت المتناقضات الثقافية والعرقية واللغوية في الحضارة الإسلامية. والملاحظ أن التفاعل الفكري وأشكال الإجتهادات المختلفة، لم تسر في اتجاه واحد، بل تعددت وتنوعت مدارسها كمنطلقات ومناهج وأساليب ونتائج ، وكل منها احتفظ بخصائصه وسماته تبعا لحجم المؤثرات والبيئات والمستجدات التاريخية.
البعد الأدبي الجمالي شكّل أحد أهم أوجه الإعجاز القرآني. فمن المعلوم أن قيمة النص الأدبي تنتج من تظافر جوانب تحدد مدى قدرة النص على الانتشار والتقبل والتمثل. وأهم هذه الجوانب الجانب الجمالي الفني، وهو سر خلود النص القادر على التأثير والإشعاع برغم الزمن. والنص القرآني احتفظ بنظارته وإشراقه منذ نزوله وحتى الآن، ليس فقط لكونه نصا دينيا .."محفوظا " بل باعتباره كتابا أدبيا خالدا بقيمته الفنية الجمالية.

أسرار الإعجاز في القرآن

لم يتوقف البحث في النص القرآني عن إجابات أكثر إقناعا واقترابا من أسراره المختزنة في الكلمة، والآية، والسورة، فأسرار الجمال لانهائية، والتذوق الفني هو ميزان الجمال ومظهر تجليه من خلال اجتماع المتلقي والأشياء، أي الذاتي والموضوعي، ضمن علاقات وتفاعلات مترابطة متبادلة. والنص القرآني نص قادر على التفاعل المباشر مع المتلقي (ضمن شروط معرفية)، وبناء علاقات على مستويات متعددة بتنوع أساليب التواصل مع النص القرآني، من خلال فنون القراءات و التلاوة والتجويد.
قدرة النص القرآني على التأثير الروحي والعقلي استثارت العلماء المسلمين، فحاولوا دراستها وتحليل جوانبها، في مُحاولة لمعرفة أسرارها، وتحديد براهينها، وفي هذا الإطار تنوعت الأدلة، فمن قائل إن إعجاز القرآن بسبب الإخبار عن الغيوب، أو الإخبار عن أحداث القرون الماضية، أو في بلاغته وفصاحته، أو أن سر الإعجاز خارج النص القرآني . وأيضا أُختلف في تحديد الأوجه الفنية الإعجازية، أهي في النظم، أم في المفردات، أم الأساليب. وهل يظهر الإعجاز في مجمل القرآن، أم في آيات دون غيرها. حركة بناء الأسس الفكرية لنظرية الإعجاز في القرآن هي حصيلة أربعة قرون خصبة، حقق فيها العلماء المسلمون إنجازات كبيرة في مختلف المجالات النظرية والتطبيقية، ومنها علم الأصوات، والقراءات، وعلم النحو والصرف، والتصانيف ومعاجم الألفاظ، ومعاجم المعاني وغيرها، ما أتاح أرضية مناسبة تضافرت مع التنافس بين المدارس المختلفة في الدفع بعجلة البحوث في إعجاز القرآن.

نماذج من تقاليد البحث في إعجاز القرآن:

في هذا المجال ركّز عبد القاهر الجرجاني (1078) م في كتابه "دلائل الإعجاز" على خصائص الكلام "الأدبي " كمستوى من بين مستويات الكلام العادي، الذي يصفه بأنه الكلام المتروك على ظاهره، وصولا إلى الكلام المعجز. وهو يؤكد أن معرفة حجة الله تتطلب "استقراء كلام العرب" وتتبع أشعارهم والنظر فيها .[2] و ينفي حصر مفهوم الفصاحة في الألفاظ وحدها بتلاؤم الحروف فيها. ويؤكد علاقتها ببُنية المعنى والأسلوب. كما يؤكد عبد القاهر على تبعية الألفاظ للمعاني.:" من حيث أن الألفاظ إذ كانت أوعية للمعاني فإنها لا محالة تتبع المعاني في مواقعها. فإذا وجب لمعنى أن يكون أولا في النفس، وجب اللفظ الدال عليه أن يكون مثله أولا في النطق"[3] كما يضيف أن "المزية" والفضل في اللغة تتطلب امتحان تأثير المعنى عما سواها. وأيضا نظم اللفظ وترتيبه يتحكم في دقة المعنى ومقاصده المتنوعة . كما يُفرق بين اللفظ الظاهر، أي المعنى الأول، والمعنى التالي، المستمد من المعنى الأول، أو ما يسميه عبد القاهر(معنى المعنى ). ويصل إلى عرض ملامح قواعد جمالية، عندما يُعرف البلاغة قائلا: (لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه، ولا يكون لفظه اسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك: يدخل في الأُذن بلا إذن)[4]انفعال الحاسة بمؤثر جمالي لغوي يُوصف بالبلاغة، عبّرَ عنه الجرجاني بعبارة ( يدخل في الأذن بلا إذن ). ويضيف ملامسا جماليات اللغة عند تعريفه للبلاغة وأسرار الفصاحة قائلا ، إنها فن من المعرفة في ذوق الكلام. ويصل إلى استنتاج أن النظم يكون في معاني الكلم دون ألفاظها، مع التزام نظمها توخي معاني النحو فيها. وهو يشير هنا إلى خصائص النظم الفنية كالتقديم والتأخير، والحذف والإظهار، والفصل والوصل، كما إن إشارته للنظم هنا تعنى اتحاد المعاني أو بعبارة عبد القاهر الجرجاني: المعاني اتحدت فصارت الألفاظ من اجل ذلك وكأنها لفظة واحدة )[5]وهو هنا يلمّح من جديد لبعد جمالي في صورة تتناغم فيها المعاني وتتحد عناصرها وتترابط في بُنية واحدة. ويؤكد عبد القاهر على أن اتحاد المعاني لا الألفاظ، سر تحول الجملة أو العبارة إلى لفظة واحدة، أي أن تمتلك طاقة خاصة (جمالية) لتستقبل بسهولة. ويفسر عبد القاهر الآية: "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب"البقرة(179)، بالمعنى الذي تصبح فيه لفظة "حياة" هي الصورة واللفظة الموحدة. كما يرفض عبد القاهر البحث عن إعجاز القرآن خارج النص القرآني، و يرفض القول بأن عجز العرب عن معارضته حجة لمن أتى بعدهم، ما فتح المجال أمامه لإظهار البعد الجمالي من خلال استعمال أدوات البحث اللغوي وتطبيق الفنون الأدبية على النص القرآني. وقد اهتم الجرجاني بالبحث في علاقات تركيب الكلمات، و النظم، واستنباط القوانين من دراسة الشعر والأدب، لامتلاك موازين التمييز بين مستويات الكلام المختلفة، أي البحث في بنية النص عن (علة معقولة فنيا). المنهج الأدبي البحثي للجرجاني أتاح له التركيز على جماليات النص القرآني من خلال توجهه للتحليل الداخلي للجملة والعبارة، بدلا من التركيز على المظهر الخارجي النحوي. مع ربط قوانين النحو والصرف بالمعاني والسياقات العامة. وهذه السياقات العامة تكتمل فيها دلالات الكلمة بالارتباط مع الدلالات الأخرى للأسماء والصفات والأفعال في علاقات محددة، تنعكس فيها جماليات التعبير باكتمال الصور، وتظافر الأجزاء وتجانسها، وترابط أبنيتها. كما ينتبه عبد القاهر إلى دور الفنون اللغوية وضروب التحسين اللفظي والمعنوي في تكوين الصورة الجمالية للجملة. وهو يركّز على أهمية العوامل الاجتماعية والبيئية والنفسية في التأثير على العبارة اصطلاحيا، ومن ثم البعد الجمالي المتأتي من ترابط التركيب اللغوي والمعنى الاصطلاحي .
أما القاضي الباقلاني (1013) م في كتابه "إعجاز القرآن"، فأنه يرى أن الكلام ينقسم إلى بليغ وأبلغ. وأن معرفة إعجاز القرآن تتطلب عرض الأساليب المختلفة، والأمثلة عن صور النظم والنثر، واستحضار فنون القول للتأمل والاستدلال والنقد، للوصول إلى معرفة الفرق بين الكلام الإلهي، عما سواه، بما يحتويه من حِكم وإخبار عن الغيوب، وخدمة لمصالح الدنيا والذين. ويضيف أن حدود "البلاغة " ومواقع البيان "والبراعة " والفصاحة تُعرف بتشريح الشعر الجيد، ومعرفة ضعفه وأوجه النقص فيه . ويعرف الباقلاني البلاغة قائلا: (إن محصولها الإبانة في الإبلاغ عن ذات النفس على أحسن معنى واجزل لفظ، وبلوغ الغاية في المقصود بالكلام)[6]وحرص القاضي الباقلاني على نفي الشعر عن القرآن، مشيرا إلى أن الكلام المنثور تكون فيه الفصاحة والبلاغة أكثر من الشعر، لضيق نطاقه، وطبيعته الفنية. كما يشير إلى ظاهرة أخرى في القرآن مفارقة للشعر وهي خلوه من الألفاظ الوحشية المستكرهة، والتصنع الإنساني والتعسف والتكلف. ويشير إلى تعدد سرد قصص القرآن بأكثر من رواية كدليل على الإعجاز: " إن إعادة ذكر القصة الواحدة بألفاظ مختلفة، تؤدي معنى واحدا من الأمر الصعب، الذي تظهر به الفصاحة لتبين به البلاغة"[7]ويرى القاضي الباقلاني، إن عدم وجود معارضة وتقليد للنص القرآني رغم امتداد الزمن، دليل على عجز البشر أمام إعجاز النص. وقد حرص الباقلاني على تضمين كتابه نماذج من خطب ومراسلات النبي وأصحابه، لإظهار اختلافها الكبير عن النص القرآني، مثال ذلك هذا المقطع من خطبة النبي:" إن أحسن الحديث كتاب الله، قد افلح من زينه الله في قلبه، وادخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، انه أحسن الحديث وابلغه. أحبوا من أحب الله، وأحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقسوا عليه قلوبكم. اعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا. اتقوا الله حق تقاته، وصدقوا صالح ما تعملون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"[8]
ضمّن الباقلاني كتابه فصولا مختلفة، اغلبها للدفاع عن القرآن، وبيان اختلافه عن الكتب المنزلة الأخرى، ونفي الشعر عنه. وركّز على عدم مشابهته للأشكال الأدبية المعروفة وفنونها المختلفة. أما تطبيقاته الأدبية فكانت لتشريح النصوص الشعرية المشهورة لإبراز عيوبها وعدم تجانسها البياني ( كنصوص إنسانية)، ولتأكيد أن إعجاز القرآن الأدبي لا نظير له، لهذا فقد غلب على كتابه الاتجاه العقائدي كمبادئ عامة أساسية.

الخلاصة

شكّل الوحي الإسلامي المكتوب "القرآن"، المصدر الروحي الأكبر لانطلاق الحضارة الإسلامية، وصيرورتها التاريخية، في رؤيتها للإنسان والموقف من الأديان والقيم الأخلاقية وغيرها، ما أعطى للكلمة قيم جديدة ذات أبعاد طبيعية، وما وراء طبيعية. لقد حملت الكلمة القرآنية أبعادا عديدة تكشّفت في مجرى تطور الثقافة الإسلامية، إذ امتلكت في البداية طاقة (السحر) والتأثير من خلال الذوق اللغوي في الجدل مع الوثنيين العرب، ذوي الفصاحة وأرباب الشعر والبلاغة .بانتشار الإسلام السريع في رقعة واسعة تضم أمما مختلفة، تفاعلت كلمة الوحي الإسلامي في ظروف إمبراطورية متعددة الأعراق والثقافات والأديان، ما أنتج حركة روحية إبداعية اهتمت في البداية بجمع الأحاديث النبوية، وتفسير القرآن، وبعلم الأصوات والقراءات، والنحو والصرف، والتصانيف والمعاجم، مثل معاجم الألفاظ ومعاجم المعاني، والبحوث اللغوية. ثم كان علم الكلام وما قدمه من إنجازات عقلية (برهانية)، أعطت مضامين جديدة لمستوى البيان في النص القرآني، بإنتاجه مواضيع جديدة كالجبر والإختيار، وخلق القرآن، ورؤية الله في الآخرة، ومسائل صفات الله، والجوهر والعرض، وتكوين المادة، وقابلية التجزؤ إلى ما لانهاية .
الكلمة البرهانية العقلية كانت تعبيرا عن التفكير المنطقي العقلي لترابط المستوى البياني، والمستوى البرهانيي. وقد تجلى المستوى البياني في الكلمة في أفضل وجوهه في تقاليد الأعجاز التي حاولت تفسير القرآن للبحث عن أسراره.

د. محمد الطاهر الحفيان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...