2009/11/25

سماءٌ في أعماق الأرض

border="0"


المترو ما يزال يسمح لمواطني موسكو بالحلم

لعل مترو موسكو، وسيلة المواصلات الوحيدة في العالم، التي يهتم السُياح بها جدا، مثل المتاحف والصروح المعمارية ـ مترو موسكو في الحقيقة تحفة الفن السوفييتي، التي لم يضمر لها أن تكون وسيلة مواصلات فقط، بل شيئا، يجب أن يعمل على تحويل وعي الناس وانتشاله من الروتين اليومي في وسط أيديولوجي. تاريخ بناء المترو بدأ في أعوام العشرينات، ويا لها من مُفارقة، أول حكومة ملحدة مع ذلك استرشدت بالتراث المُتدين الإغريقي والروماني. هكذا هو المترو يُذكِر بمُجمع معابد تحت الأرض، المؤمنون يتجولون فيه من معبد إلى آخر، أو بالدياميس الرومانية، التي اجتمع فيها أول المسيحيين، حيث انبثقت الحضارة، التي أتت لاستبدال الحضارة الإغريقية والرومانية. هكذا هي دياميس موسكو أيضا ً، المزينة بالمرمر والجرانيت، البراقة بالحديد الصلب والزجاج، كان يجب عليها أن تكون دياميس المجتمع الجديد: بناء الاشتراكية بدأ من تحت الأرض.
هجين غريب

أول محطات مترو موسكو، هجين غريب من مقدسات الأزتك والمعابد الإغريقية. على جدراننا في مكان الأرباب وقفت أنصاب الأبطال: بحارة مسلحون، جنود وفلاحون يرتدون نعالا صنعت من برونز. جمالية المترو ليست ، وليدة إبداع حُر مطلقا ً، بل هي وقبل كل شيء، تنبع من اعتبارات سياسية مُعقدة. مثلا عند افتتاح محطة مترو " ساحة الثورة"، اللجنة الإيديولوجية أرادت من هناك رفع التماثيل، لأنها صوّرت الإنسان السوفييتي في وضع نصف منحني حتى الركبتين تقريبا. ستالين نفسه عرقل ذلك، قائلا، التماثيل تبدو وكأنها حية. الأرباب البرونزية عاشت بعد ستالين والاتحاد السوفييتي، ما تزال فوهات مسدساتها المصقولة بملايين الأيدي، موجهة إلى الزحام. نوعان من التماثيل تسكن مترو موسكو: تماثيل الكتّاب والشعراء من مدافن الثقافة السوفيتية، وتماثيل أبطال الحرب والعمل المجهولين. الفسيفساء على جدران المترو ــــ في الغالب عبارة عن زخارف هندسية تجريدية، مشبوكة فيها الرموز السوفيتية مثل المنجل والمطرقة أو النجمة الخماسية، مشبوكة بطريقة رقيقة، مما يُعطي تأثيرا مُدهشا، أحيانا عندما تمر بمحاذاتها، بتوجيه نظرة مُتفحصة، بدرجة ما تُحس بإشعاعات هذه الجدران الإيديولوجية، قبل أن تفهم، لماذا توقظ فسيفساء تجريدية معان عن رفعة الأفكار السوفيتية. بجانب الزخارف المليئة بالإيديولوجية توجد فسيفساء نُظمت بعلامات سحرية ــــ الجدران تُزيّن برموز الحضارتين الرومانية والإغريقية، وببواعث القبالية، والرموز السحرية القديمة وغيرها. لكن بعض المحطات استُعمل في بنائها قصدا نماذج معمارية من الحضارتين الإغريقية و الرومانية، بعضها يُذكر بقصر كنوسس بمتاهة مينوتاور*، بينما محطة " كرابوتكينسكايا" برواقها المزدوج ذي الأعمدة تشبه مدخل معبد مصري، الاختلاف الوحيد هو أنها لا تُضاء بالمشاعل، بل بمصابيح كهربائية. رسميا يمكن التقاط الصور هنا فقط بموافقة خاصة. سبب ذلك يكمن إلى حد ما في أهمية المترو الاستراتيجية: في أعوام الخمسينات والستينات المحطات أعيد تجهيزها كملاجئ نووية. في بداية ونهاية كل رصيف من أرصفة المترو رُكّبت أبواب حديدية ثقيلة، بمساعدتها يمكن غلق المحطة بإحكام. باستثناء بعض المختصين لم ير أحد هذه الأبواب مُغلقة، لكن يمكن تخيل هذه الحالة المرعبة: عدد ضخم من الناس تسير بهم السلالم الذاتية إلى الأسفل ومن ورائهم تُغلق أبواب حديدية بسُمك متر ونصف. لكن، من المحتمل، أن هذه الأبواب منذ مدة طويلة في حالة غير صالحة للاستعمال. إذا توجهت في المترو من مركز المدينة إلى الأطراف، يعني ذلك أنك في رحلة ساعة ونصف ستكون مسافرا في الزمن: من أعوام الثلاثينات إلى الوقت الحاضر. أناقة و أُبهة تستحيلان إلى تقشف، وحتى تفاهة، وكلما ابتعدتَ عن مركز المدينة، كلما نذرت ملاقاة بنايات مترو فوق الأرض ــ المداخل هنا ببساطة ممرات تحت الأرض، فوقها يضيء حرف "м" أحمر. في مركز المدينة محطات المترو تبدو كضريح صغير، في المقابل ضريح لينين يبدو كمحطة مترو. في العموم المترو الذي منذ القديم يحمل اسم لينين، يُعتبر ضريحا مُتخيلا ــــ ضريح أفكار، ضريح المستقبل، ضريح الأحلام. مثل أي موضوع سحري، المترو يزخر بأساطير كئيبة. هكذا تُردد الحكايات، أنه في منظومة الأنفاق تحت الأرضية تعيش جرذان ضخمة ـ هي عبارة عن كائن طفرة، نشأ عن كلب صغير. هذه الجرذان بين الحين والآخر تقفُ على قضبان المترو وتُجبر القطارات على التوقف. ليلا تسير فرقة من الإختصاصيين، المسلحين ببنادق كلاشنكوف وبمصابيح كبيرة، وهي تُطلق النار على الجرذان. يقولون، إن الجرذان تتغذى على الجثث، التي تُلقى ليلا من نوافذ القطارات. في مكان ما في مركز مدينة موسكو يجب أن تكون هناك محطة مهجورة، مليئة بكل تماثيل ستالين، تلك التي كانت قد جُمعت من المدينة في سنوات الخمسينات (كل هذا قليل الاحتمال، لكن في كثير من محطات المترو ما تزال توجد صور ضخمة لستالين، بسهولة يمكن أن تُنظّف من طبقات الجص السمينة التي تخفيها ).بينما الأسطورة ألأكثر جمالا والأكثر رعبا عن مترو موسكو، ألّفها الأطفال، هذه واحدة من الحكايات المرعبة التي حُكيت في معسكرات الطلائع. عندما يتقدم الوقت وتُظلم الخيمة، تبدأ الحكاية حول، ما يحدث لمن ينعس في القطارات ويُفوتُ المحطة النهائية. عندما تُغادر القطارات المترو، يُوقظ المسافرون، يُسحبون من عربات القطار ويقُيدون بالسلاسل. بعد ذلك يقضون سنوات طويلة تحت الأرض، عاملين ومرممين تلك الآليات التي تُحرك جسد المترو الضخم. وهكذا يظلون طول الوقت كما لو كانوا في غيبوبة، لأنهم يدسون لهم شيئا ما في الطعام.عندما يشيخون ولا يعودون قادرين على العمل، يستيقظون في يوم من الأيام في عربة قطار مزدحمة، وسط الناس، الذاهبين إلى العمل. لا يتذكرون أيّ شيء عن حياتهم تحت الأرض، ببساطة يتضح لهم أنهم بالأمس فقط كانوا شبابا مليئين بالأمل، واليوم هم عجائز. حياتهم انتهت، و لا يتذكرون بتاتا ما كان بين الأمس واليوم.

المملكة السوفيتية تحت أرضية

هذه القصة ــ استعارة ممتعة: كثيرٌ من كبار السن يستعملون المترو، وعندما ينظرون إلى لوحات الإعلانات على جدران عربات المترو، على وجوههم تنعكس غربة وعدم فهم. من المحتمل، أنه على وجوه الناس في هذه الأسطورة، كان يمكن أن يكون نفس هذا التعبير. كل حياتهم قضوها داخل آلية الإمبراطورية السوفيتية الضخمة، لا يتميّز أحدهم عن الآخر. مرّت الأيام في غيبوبة إيديولوجية متشابهة. والآن، في الشيخوخة أُلقيّ بهم في عالم مُبهم، وعدائي، لا يُنتظر منهم شيئا، سوى أن يخرجوا في أسرع وقت، وان ويتنازلوا عن أمكنتهم لغيرهم. وفقا للميتافيزيقية السوفيتية، فإن الإنسان بعد الموت يعيش على ثمار عمله. بحسب هذا المعنى، المترو هو مملكة الموتى التحت أرضية. مأوى كل هذه الأرواح الكثيرة، التي لا يبقى لها شيء سوى رطوبة أنفاق تحت الأرض المظلمة. لكن الله كريم. في أعمق محطات مترو موسكو، محطة "مايكوفسكي"، توجد نوافذ بيضاوية تُطل على منظر بسقف داكن الملاط وعلى لوحة للسماء الزرقاء. بُناة المترو في أعوام الثلاثينات، والأربعينات، والخمسينات، كل أولئك الناس، يُعتبرون مترو موسكو تمثالهم التذكاري، رحلوا تحديدا إلى هناك، إلى هذه اللوحة الزرقاء في سماء داخل أعماق الأرض مُجللة بسحب وردية لغروب خالد.


فيكتور بيليفين



ترجمة: د. محمد الطاهر الحفيان






* كنوسس : مدينة في جزيرة كريت ، كانت عاصمة المملكة الكريتية مع نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد. أكتشف فيها قصر يُعتبر مدينة ـ متاهة، مساحته 22 ألف مت مربع، به دارت أسطورة حول مينوتاور: مخلوق نصفه إنسان ونصفه ثور.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...