2011/11/15

السيرة المحيرة

الإهداء: إلى المرحوم كامل حسن المقهور
" للمحبة ذاكرة تتقد ولا تخبو "

الكتابة الأدبية عملية خلق تنشىء عوالمها وترسم بيئاتها وشخوصها وعواطفها، وتغوص في صميم الحياة بتناقضاتها وبواعثها المختلفة. وتصور الأحاسيس والمشاعر الإنسانية في صياغات أدبية لها قواعدها وفنونها وأدواتها التي تشكّلت من خلال تجربة طويلة من الإبداع الإنساني .ومن الأجناس الأدبية النثرية الرواية والقصة والسيرة الذاتية واليوميات والمذكرات والرحلات. بعض هذه الأجناس الأدبية يستلهم إبداعه من الواقع بالمحاكاة أو التأريخ المباشر، والبعض الأخر يرتكز على الخيال في إبداعه. وبالطبع تمتزج في أحيان كثيرة هذه الأساليب الفنية وتتعدد من كاتب إلى أخر، متيحة مزيدا من التداخل بين الأجناس الأدبية. هذا التداخل والتنوع يضعنا في مواجهة أعمال بتقنيات فنية غير مألوفة تحتمل أكثر من تصنيف .ومن أهم الأجناس الأدبية التي تتشابه وتتقارب في نسيجها، الرواية، والسيرة الذاتية، والأجناس المشابهة لها كالمذكرات واليوميات والذكريات .وسنحاول في عملنا هذا إلقاء الضوء على تداخل الأجناس الأدبية من خلال كتاب محطات " سيرة شبه ذاتية للكاتب الليبي المرحوم كامل حسن المقهور.
حفاوة
 نال كتاب المحطات "سيرة شبه ذاتية"، اهتماما كبيرا ومتميزا عند صدوره لعدة أسباب منها أن كاتبه هو أحد رواد القصة القصيرة في ليبيا قدّم مجموعتين قصصيتين متميزتين " 14 قصة من مدينتي " صدرت في عام 1965 م، و"الأمس المشنوق " صدرت في عام 1968 م  . ثم شغل مناصب رفيعة كوزير للخارجية وللنفط .
 وبعد سنوات طويلة من الابتعاد عن الكتابة الأدبية عاد الكاتب بإرهاصات سنوات عمره الستين ليقدم كتاب المحطات "سيرة شبه ذاتية " عام 1995 م،  شهادة حية ونابضة عن "الظهرة " المحلة التي شهدت سنوات طفولة  الكاتب الأولى، وعن القاهرة التي سافر إليها للدراسة في سن العاشرة، مرتميا في أحضانها، ملتصقا بنبضها الصاخب في غمار أحداثها وتحولاتها الكبرى آنذاك.  ومن أسباب الاحتفاء الكبير بالكتاب قيمته الأدبية والتاريخية الهامة ونجاحه في تجسيد البيئة المحلية بتفاصيل ظروف صعبة في فترة حالكة ومضطربة لم يتسن تناولها وإعادة بنائها بهذا الشكل الفني الأدبي.  
 جاءت الأحداث الكبرى بالاستقلال وظهور النفط ودخول مظاهر المدنية الحديثة لتنمحي تدريجيا الملامح الأصيلة، ويطوي النسيان صفحات ووجوه من الحياة أعاد الكاتب تحبيرها وتشخيصها من جديد بلغة أدبية رفيعة وبأدوات فنية متمكنة، نجحت في بعث الماضي، مكانا وزمانا ،حيا نابضا، رفعت الستارة عن أعماق بواطنه فبانت روح المحلة بتفاصيلها الحميمة بأزقتها وشوارعها وأسرارها ونسائها ومهنها وحرفها وشخصياتها المؤثرة التي اختارها الكاتب للتعبير عن الزمان والمكان بظروفه الخاصة  لتتوجه إلى المستقبل تعرفنا بما كان .لجأ كامل المقهور إلى تسمية المحطات "سيرة شبه ذاتية " نظرا لشمول المحطات سيرة المحلة وأهلها وعدم تركيزها على ذاته الخاصة، الأمر الذي استوجب هذه التسمية " سيرة شبه ذاتية ". وهي فكرة لم تحسم تصنيف الكتاب، فعدد من الكتاب أكدوا على روائية المحطات، وأصر آخرون على فرادة النص كعمل فني جديد .
  الظهرة 
منطقة  صغيرة في مدينة طرابلس ، تعيش أربعينيات القرن العشرين  . تعيد إليها المحطات الحياة فتظهر أزقتها المتربة وبيوتها المنخفضة وشوارعها الخالية من الحركة، عديمة النساء ، وسكانها الخليط المركب من العرب واليهود والطليان والمالطية . تعيد المحطات إلى الحياة أسماء الشوارع القديمة والحرف والأدوات والعادات وتستعيد أيضا ملامح وجوه منسية نتعرف عليها بمحبة وكأننا نستحضر مع الكاتب ذكريات قديمة شهدناها معا، وشخصيات مألوفة نعرفها، وطرقات وأزقة درجنا عليها . تعود الحياة لمحلة "الظهرة" فنتعرف على عالم متنوع يكابد ظروفا قاسية تضطرم فيه أحداث تنبئ عن تحولات كبرى  قادمة .
القاهرة  
ابن " الظهرة " المحلة الصغيرة التائهة بين الأزقة المتربة يتفطّن إلى كنز المدينة الكبيرة "القاهرة "، فيقتحم زحمتها لتمده تجاربها ببصيرة نافذة ووعي كبير . المدينة الضخمة المتسعة التي خاف الطفل الغريب من أن تخطفه أو تعضه بأسنانها الشرهة، تفتح له ذراعيها ليغفو في أحضانها وكأنها أمه " صالحة ".يستجيب كامل المقهور لنداء المدينة الكبيرة الصامت، يلتصق باضطرابها وضجيجها وكأنه جزء أصيل منها.
في   القاهرة تظهر وجوه جديدة  في عالم كبير تتظافر الكلمات والجمل في رسم ملامحه وتحريك عوالمه وإعادة الروح إليه. ويبدو انتقال صور الأحداث  في "المحطات" من المحلة إلى القاهرة وكأن المسافة قصيرة، وكأن القاهرة أفق المحلة الكبير، أفق ساحر تتدفق فيه الأحداث لتجرف ابن المحلة قشة في النهر الصاخب.
 اكتشاف الذات 
محطات كامل المقهور  خطوات حثيثة نحو إعادة معرفة الذات، وتفرس في الحياة للخروج من حصار الرمل والعزلة. كل خطوة فيها تتجه إلى معرفة تستكمل الهوية، تزيح الظروف المشوهة والطارئة وتتتبع الأصل لرؤية الواقع كما هو،  بظروفه الصعبة والقاسية، ومنه تستلهم الإحساس بخطر الفراغ الحضاري.  كما أن محطات كامل المقهور تظهر كطريق لوعي الشخصية الوطنية، و لاكتشاف خصوصيتها وسعي لاستكمال مقوماتها في بيئة صغيرة تتكدس فيها خلائط أقوام وثقافات متعددة وافدة، تتعرض فيها لأخطار التشويه والتذويب وسط المجاعات والفقر والاحتلالات المتتالية.  
   تجربة الحياة في القاهرة أعطت هذا الوعي مزيدا من الخصوصية والوضوح ليكتمل الإحساس بتميز شخصية المحلة، فقد أثّرت تجربة القاهرة في الشعور المتزايد بالهوية الوطنية وساعدت على مقاومة العزلة للالتحاق بحركة المنطقة التي بدأت تتشكل من جديد آنذاك، وتنهض من سباتها لاستعادة أصالتها وثقافتها وحريتها.
 براهين الرواية  
 أنصار ترجيح كون محطات كامل المقهور أقرب إلى الرواية يوردون عدة حجج منها تعدد الضمائر في "المحطات" وتنوع تقسيماتها الفنية وتعدد مستوياتها السردية والحوارية. وأيضا بُعدها عن الأسلوب التقليدي في السيرة الذاتية، وغياب الأسماء الكاملة والاكتفاء بأسماء الشخصيات مجردة . مع رسم ملامح شخصيات مركبة ومتميزة واستبطانها نفسيا باستخدام أدوات فنية لا تتطلبها المذكرات بطبيعتها. ومن براهينهم أيضا وضوح الزمان والمكان وغياب وجهة النظر الشخصية والتسجيلية المعتادة. كذلك تميز المحطات بلغة أدبية راقية وتصويرية، وتعامل الكاتب الحر والمنفتح في رسم شخصياته المتعددة والتدخل في إعادتها من كونها الضبابي المختزن في الذاكرة، الذي ما كان له أن يتأتى ، بدون الاشتغال الروائي على النص .
 براهين السيرة الذاتية  
من أدلة هذا الرأي غياب القصد الروائي الذي لو توفر لكانت بنية المحطات أكثر قبولا واكتمالا كرواية. ومرد ذلك حذر الكاتب ودقته وسيطرته على النص في سرده  لذكريات حقيقية مختزنة في الذاكرة متحاشيا الإفصاح عن كثير من جوانبها بتأثير التابو الاجتماعي. وأيضا تظهر سيطرة الكاتب على النص في التزامه الابتعاد عن التجارب السلبية وتجاهلها. وبالتالي حدّ هذا الحذر من انفتاح النص وقلل من قيمته الروائية. ويضيف أصحاب هذا الرأي أن السيرة الذاتية جنس أدبي له مكانته وأسسه واضحة معالمها في النص، مما لا يدعو إلى البحث عن تصنيف آخر لا يضيف شيئا إلى كتاب جميل وممتع.  كما يؤكد أصحاب هذا الرأي على خلو المحطات من الخيال باعتمادها على الذكريات الخاصة والعامة والتقيّد باستذكارها الفني والأدبي.
جنس أدبي جديد 
يؤكد بعض الكتّاب على حرية العمل الإبداعي في إضفاء مضامينه وفرض شكله اللاحق على أشكال وتقنيات مسبقة. ومن هذا المنطلق يفترضون أن المحطات نص أدبي يصعب إحالته على الرواية أو السيرة الذاتية، لأنه قائم بذاته كتجربة أدبية جديدة قد تكون مقدمة لجنس أدبي يستوعب معطيات الظروف المحلية ويقدم إضافة بقدرته على التعامل مع البيئة المحلية بعناصرها وأدواتها  ولغتها. كما أنهم يستندون في تأكيد ذلك على اتساع الأجناس الأدبية بتداخلها وانفتاحها وتعدد المحاولات والتجارب في عالم يعيش تطورات وتغيرات متلاحقة تحتاج بالضرورة إلى قوالب جديدة ومتطورة تلاحقها وتتسق معها. وأيضا يفترضون أن خصوصية التجارب المحلية وتميزها قد لا تستوعبها أجناس أدبية تكونت في بيئات مختلفة ثقافيا وحضاريا. ولهذا فأنصار هذا الاتجاه يقدمون المحطات كجنس أدبي جديد يعكس بيئة خاصة يتكامل موضوعا وتصويرا ولغة وبناء. 
رؤية الكاتب  
     في مقدمته للكتاب ينتبه المؤلف إلى صعوبة تصنيف نصه فيورد " ما سيأتي ليس تاريخا، تسجل به الأحداث على نحو محايد كما يدعي بعض كتبة التاريخ. وما سيجيء ليس سيرة ذاتية، إذ ليس هناك قيمة ولا فائدة في حياة شخص واحد دون ربطها بحياة الآخرين. والصفحات القادمة ليست سجلا لأحداث بعينها أو تقريرا عن وقائع بذاتها مرتبة حسب تاريخ قيامها. وما سيرد ليس رواية أو قصة يشكل الخيال جزاءا كبيرا من ترتيبها. وهي ليست مذكرات ولكنها على وجه اليقين ذكريات تم تسجيلها في الذاكرة دون قصد وربما دون ترتيب. واعتقد أن قد حان الأوان للإفراج عنها.
أسئلة النص  
هل هناك ضرورة لتحديد هوية نص أدبي وتصنيفه تبعا لذلك والتعسف في وضع قوالب مسبقة اكتملت في بيئات مختلفة ومطابقتها بأعمال أدبية لاحقة ؟ هل يحتاج المبدع إلى شهادة ميلاد تقرر جنس نتاجه ؟ أم الأولى أن يعطى المبدع حرية التعاطي مع التقنيات والأساليب الفنية بما يتناسب وموضوعه وأدواته ورؤيته الفنية ؟لقد حرّك كتاب محطات " سيرة شبه ذاتية " عند صدوره في الوسط الثقافي موجات من النقاش والبحث والاهتمام  مرده تناول المحطات واقعا محليا أصيلا، عكس الذات الكبرى للجموع بماضيها وحاضرها ومستقبلها وخصوصيتها بجرأة المحاولة والاكتشاف، وصدق الأدوات، وأصالة التجربة. ولعل احتشاد الأسئلة حول نص أدبي متميز، يقدم مزيدا من الأفكار الجديدة والإبداعات المتنوعة، قد عبّر عن قيمة نص "المحطات" في تعريفه بالمضمون الإنساني والثقافي المحلي الخاص، وحميميته في إظهار خصوصيته. ولذلك فان الاهتمام والجدل الذي رافق صدور "محطات" كامل حسن المقهور يعكس أهمية الكتاب كنص أدبي وتاريخي، وباعتباره عملا جديدا متميزا يضيف إلى الحركة الأدبية في ليبيا أبعادا جديدة، لا شك، بأنها ستجد تطبيقاتها وتأثيراتها في أعمال لاحقة، ودراسات تلقي الضوء على قيمتها، وتبرز جوانبها المتنوعة. 
 
 محمد الطاهر الحفيان



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...