2009/11/17

جيرينوفسكي: وعد بلفور أشنع جريمة في القرن العشرين

ينتمي فلاديمير فولفوفوفيتش جيرينوفسكي إلى فئة من السياسيين الذين ظهروا على الساحة السياسية الروسية في غمار التغيرات الكبرى التي رافقت وأعقبت انحلال الاتحاد السوفييتي، في خضم حرب شعواء احتدمت على السلطة والمال، تناسلت فيها، الأحزاب من كل الأنواع، بدءا ً بحزب أنصار البيرة، وانتهاءا ً بحزب للعذراوات!. وقد مثّل جيرينوفسكي ظاهرة خاصة تُعبّر بشكل ما عن تلك الحالة المأساوية لفقدان التوازن والانهيارات الفوضوية الكبرى في كل المجالات. عكست تلك الفترة، في جوهرها، أزمة البحث عن (هُوية) بديلة مناسبة للدولة الجديدة المتعددة القوميات والأديان. من بين الملامح الهامة التي ميّزت جيرينوفسكي عن غيره من نجوم العهد السياسي والاقتصادي الجديد، مواقفه وتصريحاته القومية المتطرفة، التي تغذيها قدرة خطابية كبيرة، وموهبة في التعليق الناري الساخر، جعلت منه أحد أبرز الشخصيات السياسية والتلفزيونية المسلية في روسيا الاتحادية.كان النجاح الهام لجيرينوفسكي في الحياة السياسية الجديدة، عندما نال حزبه الخاص، الحزب الليبرالي الديموقراطي الروسي (ЛДПР ـ ل د ب ر)، 22% من أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية في 12 ديسمبر عام 1993 م. هذا الانتصار الكبير والفُجائي في ذلك الوقت، جعل من جيرينوفسكي لاعبا ً أساسيا ً على الساحة السياسية المضطربة والعنيفة. تميّزت الحالة السياسية في روسيا آنذاك بالصراع الحاد الذي دار بين الأحزاب والقوى اليمينية التي تقود عملية الخصخصة سيئة السمعة، والحزب الشيوعي الذي عاد بقرار قضائي بعد حله وتحريمه عقب محاولة الانقلاب الفاشلة ضد غورباتشوف عام1991م. وقد شكّل الحزب الشيوعي الروسي بقيادة زوغانوف قوة سياسية كبيرة لها حضور قوي في البرلمان الروسي ( الدوما)، دخلت في سجالات طويلة في البرلمان وفي الشارع ضد سياسات يلتسن التي قادت الدولة عدة مرات إلى حافة الإفلاس، ناهيك عن الانهيارات الاجتماعية والعسكرية الكبيرة. في هذا الوضع المتفجر بدأ يبرز دور جيرينوفسكي كسياسي نفعي يعرض للبيع أصوات نواب حزبه في البرلمان (وقبل ذلك المقاعد النيابية نفسها)، مقابل التصويت ضد المحاولات المتكررة للأغلبية البرلمانية للقوى اليسارية ( تكتل الحزب الشيوعي وحلفائه)، لحجب الثقة عن الرئيس يلتسن، أو محاصرة قرارات بيع القطاع العام والتحول الفوري إلى الاقتصاد الحر. وقد تحجّج جيرينوفسكي، (الذي اعتاد على انتقاد ومعاداة القوى اليمينية المسيطرة على السلطة التنفيذية)، بخوفه من عودة النظام الشيوعي إلى السلطة من جديد. وقد وجدت القوى اليمينية المسيطرة على الحكومة في جيرينوفسكي وحزبه الأداة المناسبة والقوة الحليفة في البرلمان وفي الشارع لمقاومة ضغوطات الحزب الشيوعي ذي القاعدة الشعبية الواسعة وخاصة عند كبار السن. ورغم مشاغبات جيرينوفسكي وآرائه المتطرفة في الداخل والخارج فقد مثّل، في حالات كثيرة، قوة جاهزة للتعبئة استغلتها قوى اليمين(أساسها رأس المال الذي نتج عن عمليات النهب الكبرى ببيع القطاع العام)، لإجهاض محاولات الشيوعيين الوقوف ضد سياسات يلتسن. كما شارك جيرينوفسكي في الانتخابات الرئاسية في عهد يلتسن خصيصا ً لتوزيع الأصوات، وحرمان زوغانوف، المنافس الأساسي، من التقدم على يلتسن. اتسم عهد الرئيس بوريس يلتسن بما يمكن تسميته" استقرار الفوضى"، حيث أعطى الحرية الكاملة لمنظري السوق الحرة للقضاء على الاقتصاد القديم دون ضوابط، في صورة مشابهة لدعوته الشهيرة لأقاليم الأطراف، أخذ أقصى ما تستطيع من صلاحيات وسلطة استقلالية. وقد استغل جيرينوفسكي لعبة السلطة والمال هذه، كسياسي حاذق، قادر على اللعب على المتناقضات والاستفادة القصوى منها. بعد استقالة الرئيس يلتسن، الذي هيأ لخلافته فلاديمير بوتن، كضمانة لعدم فتح ملفات الفساد في عهده، استمر جيرينوفسكي في أداء أدواره القديمة، وإن في اتجاه مختلف وأقل أهمية، فإن كان قد تحالف في عهد يلتسن مع السلطة والمال ضد الايديولوجيا، ففي عهد بوتن، كان حليفا للسلطة القوية جماهيريا، ضد اليسار متمثلا في الحزب الشيوعي، وضد اليمين ورموزه الفاعلة في عهد يلتسن، مثل حزب اتحاد القوى اليمينية، وحزب التفاحة. ولقد استوعب جيرينوفسكي فيما بعد تغيّر سياسات الدولة واتجاهها نحو تقوية السلطة المركزية ومحاربة الفساد، بالإضافة إلى تغيّر موازين القوى السياسية نظرا ً لشعبية الرئيس بوتن الكاسحة، وإصلاحاته الناجحة التي وفرت قدرا ً كبيرا ً من الاستقرار بعد سنوات الأزمات والفوضى، الأمر الذي جعله يؤيد كل قرارات وإجراءات الرئيس بوتن لتقوية سلطة الحكومة المركزية في موسكو، ويحتفظ بالتالي بنسبة من أصوات الناخبين تؤهله وحزبه للبقاء على الساحة السياسية، في الوقت الذي لم تستطع أحزاب كثيرة من اليسار واليمين، الحصول على الحد الأدنى من الأصوات للدخول إلى البرلمان في دورته الأخيرة في عام 2003 م. لم يفقد جيرينوفسكي في عهد بوتن أهميته للسلطة كمعارضة تلعب دورا ً في التوازنات السياسية فقط، لكنه فقد قدرته السابقة على خوض المعارك الكلامية (والجسدية في بعض الأحيان)، ضد السياسيين المعارضين في عروض تلفزيونية صاخبة، كوسيلة هامة للفت الأنظار وكسب إعجاب المناصرين، وبالأخص بعد تعيينه نائبا ً لرئيس مجلس (الدوما)، في دورته الأخيرة ذات الأغلبية البرلمانية لحزب بوتن " روسيا الموحدة ". ومع ذلك ما يزال جيرينوفسكي نجما تلفزيونيا ً، تستضيفه أهم القنوات الروسية بشكل دائم، لما يضيفه من أجواء مرحة وصاخبة، جعلت أحد المعلقين الروس يقول "إن الحياة السياسية الروسية بدون جيرينوفسكي مملة ". موقف جيرينوفسكي العلني من السلطة يشبه موقفه من أصوله اليهودية، فطيلة الأعوام السابقة كان ينكر ذلك بإصرار، وفي الوقت نفسه يُغالي في دعوته للوطنية الروسية، بل ويرفض وأعضاء حزبه، في جلسة برلمانية، الوقوف دقيقة صمت على أرواح ضحايا اليهود في محارق الغاز في الحرب العالمية الثانية، معللا ً ذلك بأنه كـ(روسي)، يحتج على تجاهل عشرات الملايين من الضحايا الروس في الحرب الوطنية العظمى( هكذا تسمى الحرب العالمية الثانية في روسيا). لكن يبدو أن الظروف والمصالح بدأت تتغير، فمنذ وقت قريب، صرّح، في تناقض مع أدواره الأخرى، في لقاء تلفزيوني بأن بريطانيا العظمى، سَخِرت من اليهود بإقامة دولتهم على رقعة ضيقة. وأن الحل الوحيد لاستمرار إسرائيل هو استعمال السلاح النووي من أجل إبعاد العرب عن الأطراف المحيطة، فهم لديهم صحاري ومساحات واسعة، ويجب أن يتنازلوا عن رقعة مناسبة للدولة اليهودية. وهكذا تغيّر جيرينوفسكي، الذي يحمل لقب أمه، بشكل جذري، في مسألة تأكيد عراقته كروسي، مما جعله يعلن في مؤتمر صحافي في تل أبيب في 25 يونيو 2006 م، أنه وجد قبر والده فولف ايديلشتين في إسرائيل التي هاجر إليها في عام 1949 م، وتوفى بها عام 1983 م. لقد اطمأن جيرينوفسكي على مكانته في الحياة السياسية الروسية، وشعر بأن أصوله لن تؤثر سلبا ً على مكانته السياسية وعلى علاقاته وتحالفاته الداخلية والخارجية، وبالأخص بعد التغيرات السياسية الدولية في العالم بعد عملية 11 سبتمبر، بالإضافة إلى التطورات السياسية والاجتماعية في عهد بوتن، ومعرفته الأكيدة بأن تحقيق طموحه بالوصول إلى منصب الرئاسة في الانتخابات القادمة مستحيل، عمليا ً. وجد جيرينوفسكي أقارب أموات وأحياء في إسرائيل، وعاد من زيارته بـ 120 صورة لوالده توضّح مراحل حياته المختلفة. لكنه، رغم هذا الاكتشاف المتأخر لهُويته وأقنعته المتعددة الوجوه، ظل ممثلا ً بارعا ً، يعرف كيف يستفيد من التناقضات والمصالح دون تقديس لأي مبدأ. لم تعد الظروف السياسية في الوقت الراهن في روسيا تسمح لجيرينوفسكي بلعب أدواه السابقة بعقلية تجارية محنّكة، في بازار سياسي يتطلب خدماته، لكنه ما يزال نجما ً تلفزيونيا يتفنن في إبراز مواهبه الخطابية والتمثيلية، متسلحا بتعليقاته المرحة الغرائبية التي تجعل المشاهدين يضحكون طويلا ً.
د . محمد الطاهر الحفيان
‏17‏/08‏/2006 م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...