2009/12/07

على درب الحملات الصليبية: نحو مصدر النزاع بين الإسلام والمسيحية


هذا، كما يبدو، علامة على الزمن المضطرب، في السنوات القليلة الماضية أُنتج فيلم ريدلي سكون " المملكة السماوية"، الذي يفتح أمامنا العالم العسكري للحملات الصليبية. هذه الحملات كانت، بوجه ما عبارة عن صدام حضارات، هزة أرضية تاريخية، هي الأساس الافتراضي للمواجهة. جان ـ كلود غيلبو(Jean-Claude Guillebaud)، مؤلف كتب وأفلام وثائقية من نفس نوع هذا الموضوع، يقودنا على آثار الصليبيين" الذين باركهم الرب".

ذكرى هذه الملاحم، التي ابتدأت في كليرمون ــ فيران والتي تدحرجت بالصليل والتعصب من خلال اسطنبول وبيروت.  القدس نفسها، ما تزال حتى الوقت الراهن تؤدي تأثيرا ً محددا ً على الوضع الجغرافي ـ السياسي المعاصر.
افتتح البابا أوربان الثاني في 27 نوفمبر عام 1095 م، في مدينة كليرمون، أحد الأحداث الأكثر شذوذا ً في كل التاريخ الغربي ناطقا ً بثلاث كلمات " هذا ما يريده الرب"، . نحن عن عمد نستخدم هنا هذا التحديد القوي، إذ أن، ملاحم الحملات الصليبية، واقعيا ً استمرت أربعة قرون. تكونت هذه الحملات من ثمان بعثات تتبع بعضها البعض وعمليا ً انتهت فقط قي شهر يناير عام 1492 م. بغزو مملكة غرناطة الإسلامية، في أسبانيا. لكن الأثر التاريخي، الذي تركته هذه الأحداث، سيبقى طويلا ً لاحقا ً.
بعض المؤرخين يعتبرون الحملات الصليبية مغامرة فتحت الطريق أمام الغرب المسيحي إلى العالم الأخر، بينما آخرون يرون فيها النموذج الأصلي للاحتلال الاستعماري وللتوحش الحربي. الحملات الصليبية لم تتوقف بتاتا ً، حتى بعد مرور ألف سنة، عن إقلاق الذاكرة الإنسانية. ليس ذاكرتنا فقط، بل والذاكرة الأوروبية، والإسلامية، والأرثوذوكسية والأرمينية.

ستبقى الحملات الصليبية نقطة الانفجار الأولى، والجرح الذي لا يندمل:
هذا تاريخ قديم بالفعل، لكن الحملات الصليبية تركت أثرها حتى على التاريخ المعاصر. فبعد مرور تسعة قرون، ما يزال الاستشهاد بهذه البعثات المسيحية يلعب، دورا ً هاما ً في رمزية النزاعات في الشرق الوسط، وفي البلقان أو في العالم السلافياني. ونقدم بعض الأمثلة. قبل أن يطلق النار التركي علي أغدجا على إيوان بافل الثاني في 13 مايو عام 1983 م في ساحة القديس بطرس، يقص في إحدى الرسائل عن دوافعه بقوله: "قررتُ قتل إيوان بافل الثاني، القائد الأعلى للصليبيين". لم يكن هذا هذيان مجنون. بشكل متجدد دائما يتغذى اشعال موقد النزاع الشرق أوسطي حتى الوقت الراهن أساسا ً على هذه الذكريات. الحملات الصليبية ستبقى في الوعي الإسلامي نقطة الانفجار الأولى، والجرح الذي لا يندمل والذي يبرر حتى الآن، في عيون الأصوليين، كل أشكال الجهاد.

الحكام العرب المعاصرون، مثل جمال عبد الناصر، وحافظ الأسد، وصدام حسين، يتغذون على الذكريات المرة والمجيدة للحملات الصليبية، وتعتبر معركة حطين (1187 م) أهم حدث مبارك جرى أثناء الحروب الصليبية بالنسبة للمسلمين، بنتيجتها طُرد الفرنسيون من القدس. اثنان من ثلاث كتائب جيش التحرير الفلسطيني تحمل الأسماء، التي تُذكر بالمعارك الحاسمة لانتصار المسلمين وهما حطين وعين جالوت.

أما فيما يخص دولة إسرائيل، فإنها تماثل بالنسبة للمخيلة العربية حتى الآن "الغرب" المستعمر، وممالك الفرنجة، التي أسسها الصليبيون. جميع تلك الممالك تقريبا ً (عدا طرابلس) لم تعش أكثر من قرن. الدعاية الإسلامية لا تتعب من التكرار، بأنه سيكون لإسرائيل نفس هذا المصير المحتوم، كما أنه سيظهر صلاح الدين جديد في العالم العربي عاجلا ً أم أجلا ً، من سفر التاريخ، الذي استطاع فيه أن يوحد مقاتلي الإسلام. جمال عبد الناصر قارن نفسه بصلاح الدين، وحافظ الأسد أيضا ً. لا يضحك إلا كثيري النسيان من دور صلاح الدين الجديد الذي حمله على عاتقه باستعجال صدام حسين، الذي أنهض الشعب ضد الغرب في حرب الخليج عام 1991 م. وفي عام 2003 م في العراق.

العالم العربي الصغير تبنى بسهولة كبيرة هذا الرمز، إذ انه من أجل تبرير شن الولايات المتحدة الأمريكية للحرب، بوش الأب والابن أيضا ً تكلّما عن الرب وعن الصلاة والحملات الصليبية، بل إن ذكريات مشابهة تعيش أيضا ً في قلوب السلفيان الروس أو الصرب المسيحيين، الذين بأقل دافع يتذكرون الاستيلاء ونهب القسطنطينية في عام 1204 م من قبل الصليبيين الكاثوليك. أو في نفوس مسيحيي الشرق، الوضع المبهم الذي كان منذ عام 1975 إلى 1992م واحدا من الأسئلة الهامة للحروب التي لا نهاية لها في لبنان. كما أن عزلهم ابتدأ في وقت ما بالحلف مع الصليبيين، وهم حتى الوقت الحالي يلامون عن ذلك.

هذا ما يريده الرب!

فلنعد إلى نقطة البداية: الموعظة الدينية للبابا أوربان الثاني، التي نطق بها في نوفمبر عام 1095 م أمام ثلاثة عشر مطرانا ً، ومائتين وعشرين أسقفا ً، وأربعمائة قسيس وعدة آلاف من الفلاحين البسطاء، الذين اجتمعوا في مجلس استشاري في مدينة كليرون. لماذا دعاهم البابا للحرب المقدسة؟ هو يتحدث عن الاضطهاد الذي يتعرض له آلاف الحجاج في الأرض المقدسة. الاضطهاد اتسع في القرن الحادي عشر الميلادي مع ظهور قوات الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في تلك الأنحاء. الحاكم بأمر الله، كان بمثابة نيرون إسلامي، اشتهر بأنه محا من ظهر الأرض ضريح المسيح. هذا الاضطهاد لم يكن ملفقا ً، كما يؤكد علماء التاريخ الدنياويون. في عام 1064 م هجم البدو على سبعة آلاف حاج كان يقودهم الأسقف بامبيرغسكي غونتير. لم يتهيأ الحجاج للمقاومة، وتمت إبادة مئات كثيرة منهم. هذا الاضطهاد استؤنف بعدما غزا الترك السلاجقة في عام 1071 م تحت زعامة عزيز بيت المقدس وأبادوا جزء من سكانها.

الذريعة الأخرى، في هذه المرة النظام الجغرافي ـ السياسي: حصار السلاجقة الأتراك للإمبراطورية البيزنطية ( يقول أوربان الثاني " إنهم إخوتكم الشرقيون"). يؤكد البابا، أن الإمبراطورية البيزنطية تستنجد بالمسيحيين من الغرب ليأتوا لمساعدتها. البابا يعد بغفران ذنوب أولئك الذين يقدمون حياتهم فداء في " الحرب ضد الكفار" أو الذين سيموتون في الطريق إلى هناك. كما يدعو الفرسان وأولئك الذين كانوا " مأجورين مقابل عملة حقيرة" أن يقفوا بلا تمهل في صفوف جند الرب. ويُضمّن حديثه هذه الكلمات المشهورة، التي تلهب الجموع الغفيرة وسوف تطوف غير مرة بكل العالم المسيحي: " هذا ما يريده الرب!"

تضاف إلى هذا الدافع الخير دوافع أخرى، أقل خيرا ً. أولا ً، الرغبة في إبعاد المقاتلين والفرسان عن المملكة، أولئك الذين بخوضهم اشتباكات لا نهائية، أشاعوا هناك عدم الاستقرار والعنف. ستكون الحملات الصليبية لهؤلاء " المقاتلين" خلاصا لهم. حسب وجهة النظر العميقة، فان نهاية القرن الحادي عشر كانت الفترة التي عانت فيها أوروبا من المجاعة، وبدأ فيها من جديد نمو سكاني، وكان فيها فائضٌ للقوة. الحملات الصليبية كانت مبادرات الغرب الأولى، التي قرّر فيها الإفلات من حدوده.

شي واحد فقط لم يتنبأ به أحد، بما في ذلك البابا أوربان الثاني: دعواته ونداءاته ستجد أصداء واسعة في كل أوروبا. هذه الظاهرة التي يمكن أن نسميها ترويج المعلومات وسط الجماهير.

" البؤساء"

البابا في مواعظه في كليرمون عيّن رسميا ً بداية الحملات الصليبية في 15 أغسطس عام 1096 م، كي يتبقى وقت لتحضير جيش يتكون من 4 فيالق، ستنطلق إلى وجهتها بدروب مختلفة، وكان يجب أن تلتقي الفرق في القسطنطينية، كي يتجمع هناك " جند الرب ": جيش الفرنجة القوي.

لكن الإشاعات حول الحملة انتشرت في كل أنحاء أوروبا، وبدون انتظار التاريخ المحدد، بدأت جموع غفيرة لا تُحصى حركتها في ربيع عام 1096 م. يقودها خطباء هائجون، يتجولون آنذاك بين المدن وفي كل مكان. يشبهون الدعاة والخطباء في القنوات التلفزيونية الدينية في كثير من النواحي. واحد منهم أصبح أسطورة هو بطرس الناسك، الذي تجول حافيا ً، وعلى حمار، ارتدى جُبة من الكتان، زوّج العاهرات ودعا للوئام. وبغض النظر عن كل ذلك، فقد نجح في جر جموع غفيرة وراءه إلى بيت المقدس.

في الواقع، هذه الحملة الساذجة إلى الأرض المقدسة، أصبحت الأولى في تاريخ الخروج على مسرح تاريخ الجماهير الغفيرة مغفلة التسمية، والتي دُعيت للعب دور في المجتمع وفي الكنيسة. بالأخص هؤلاء " البسطاء" الذين دعاهم بارونات الفرنجة إلى أداء واجبهم. معدمو القرى، وأرقاء الإقطاع، الذين وعدوا بالحرية، عائلات بكاملها، توجهت في طريقها بصحبة ثيرانها، وانضم إليهم المحكومون بالإعدام، والسفلة والعاهرات. أي إشارة فوقية يمكنها أن تحرق أرواحهم. عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، حملوا الصلبان باستعجال على أسمالهم البالية، وانطلقوا مسرعين إلى الشرق، على الرغم أنه كان من الصعوبة بمكان أن يتخيلوا آنذاك، في أي جهة يقع الشرق المقصود، وأحيانا ًخلطوا بينه وبين القدس السماوية. بدون تحضير، وبدون إعاشة، أحيانا ً دون الإلمام بالطريق التي يجب المرور بها، والملحمة الشعبية " أغنية النحلاء" تحكي عن الجموع الفوضوية والمُبادة بسرعة.

من المنطقي أن هذه " الحملات الصليبية الغفيرة" حملت في طياتها جنين التمرد والفتنة. ذكريات هذه الفوضى غالبا ً ما تُخلط بالحملات الصليبية الرسمية، وبزعمائها الرسميين (التي ستتوجه في طريقها لاحقا ً بعد عدة شهور طويلة) وعن طريق الخطأ ينسب هذا الهياج إليها. هذا الهياج يمضي موغلا بعيدا في الصدامات البسيطة: المذابح المنظمة، التي قامت بها العصابات الألمانية، إبادة اليهود، الذين يعيشون على ضفاف نهري الراين والدون، عمليات النهب في المجر أو في البلقان. وحين ستخرج الجيوش القوية إلى الطريق المؤدية إلى بيت المقدس، فان ذكريات القتل والدماء ستلاحقها.

هذه هي بيزنطة!

من بين ما يقارب المئة والخمسين آلف إنسان، مابين فرسان وراجلين وكنسيين، ونساء وخدم، خرجوا من أوروبا صيف عام 1096 م، وصل منهم عشرة آلاف فقط بعد مرور ثلاثة سنوات، إلى أسوار بيت المقدس في عام 1099 م. كان على جيوش الفرنجة في طريقها أن تتأثر بمغامرات متنوعة، بما في ذلك الأحداث المرعبة. الأكثر إدهاشا ً هو أنه كما لو كان كل حادث من تلك الأحداث قد سُجل بطريقة مختلفة، وبقيت إلى قرون لاحقة في ذاكرة أوروبا والشرق.

الحدث الأول يحمل خاصية ثقافية وسياسية. عندما اقترب المقاتلون الخشنون والغاشمون الفرنجة من أسوار القسطنطينية، رأوا مدينة عظيمة، سبقت بقرنين في نموها مناطقهم الأوروبية الأخرى. ذهولهم وإعجابهم وُصف في كل المدونات التاريخية لتلك الحقبة ــ صاحوا " هذه هي البيزنطية". الصليبيون شاهدوا مدينة لم يروا سابقا ً مثيلا لها، بنيت فيها القصور، وصروح من الصخر الأرجواني والذهب، والأعمدة الفخمة والكنائس البيزنطية، والساحات الضخمة، المبلطة بالمرمر، والشوارع الواسعة، التي تحيط بها محلات تجارية متعددة الطوابق. يوجد فيها مضمار سباق روماني يشرف على بحر مرمرة يسع 000 30 شخص. جموع من الخدم في الشوارع، وحيوانات غريبة منها الجمال والفيلة، التي يقودها العبيد، " السود كما الخطيئة"... وكاتدرائية القديسة صوفيا البيزنطية بقبة ومحراب عظيمين، زينا بعظام الفيلة، وبالذهب وبالأحجار الكريمة...

بريق القسطنطينية الذي يباين الغرب العريق، يعكس كل تاريخ الألف سنة المسيحية الأولى. هذه العاصمة الضخمة للتجارة وللقساوسة، مدينة متلألئة وقاسية كألعاب السرك، التي كانت منتشرة بشكل واسع فيها، هذه العاصمة، خبيثة، مثل مؤامرات القصور، سحرية وضبابية كالشرق نفسه ـ هذه هي كل المسيحية، التي احتمت على امتداد خمسة قرون خلف تلك الأسوار ونجت من غارات البرابرة والانحطاط. هذه تركة أثينا وروما، التي كانت قد حفظت هنا من أي خطر.

لقاء معقد جمع بين إمبراطور القسطنطينية وهؤلاء المقاتلين، الذين دعاهم لمساعدته، ويستمر سوء الفهم المتوالي. عندما تكيّف الفرنجة قليلا ً، استيقظت فيهم ريبة تجاه " هؤلاء الإغريق المؤنثين"، الذين يريدون استغلالهم. البيزنطيون يتخوفون من القوة الخشنة لهؤلاء المتوحشين، الذين بمساعدتهم يريدون استعادة المناطق الضائعة. في الختام، ستنتصر القوة، وسوف يطرد البيزنطيون من المدينة. سوف ينغرس بين عالمين مسيحيين، لاتيني وسلفياني، سوء الفهم، والحقد، وعدم الثقة، التي ما تزال حية حتى هذه الأيام.

الطاعون

الأحداث التالية ستكون بالأحرى حربية ودموية. في البداية ينتصر الصليبيون في معركتين كبيرتين. الأولى في شهر مايو عام 1097 م في مدينة نيكي ( الآن هي مدينة تابعة لتركيا تسمى إزونيك)، التي انتزعوها من السلاجقة بعد حصار مُهلك، و الثانية كانت في شهر يوليو عند دوريليه ( تقع في الأناضول)، حيث وقعت في البداية خيالة الفرنجة الثقيلة بالدروع وبالخوذ الحديدية في وضع حرج بعد هجوم عنيف للخيالة التركية، التي قُتل منها المئات تحت أمطار من سهام الصليبيين. النصر في النهاية كان في صف الصليبيين، لكن ثمن ذلك كان باهظا ً. رماة السهام والخيالة ومقاتلي السلاجقة انسحبوا من أرض المعركة. السجلات التاريخية الصليبية تورد: " نحن لاحقناهم، نفتك بهم طيلة يوم، وقد كانت من نصيبنا غنيمة ضخمة من الذهب والفضة، والجياد والحمير والجمال، والأغنام، والثيران وغير ذلك كثير من الأشياء التي لا نعرف تسميتها".

بعد أن طالت مسيرة الحملة شهورا عديدة في مناطق الأناضول وجبال طورس، وهم يكابدون الجوع والحرارة الشديدة المنهكة والأمراض، انتظرت الصليبيين عند أسوار مدينة أنتيأوخي محن أخرى أكثر فتكا ً. المدينة، التي اقتربوا منها مع الخريف، كانت الأكثر روعة من كل قلاع الشرق وآسيا الوسطى. بحسب كلام البيزنطيين، فان هذه المدينة الحصينة عظيمة البنيان كانت بُنيت من طرفهم قبيل نهاية الألفية الأولى بقليل. الصليبيون وقفوا مذهولين من مدى مناعتها ـ عشرات الكيلومترات من الأسوار مزودة بـ 450 برجا ً، سامقة في اتجاه الشرق. استمر حصار القلعة ثمانية شهور( من 20 أكتوبر عام 1097 م إلى 18 يونيو عام 1098 م). يُبيد جيش الفرنجة الجوع، وهجمات الأتراك المضادة، وبعد ذلك الطاعون. السجلات التاريخية تتحدث عن مذابح جماعية، وعن جبال من الجثث، والخدع الحربية والجواسيس... هذا الحصار، بكلمة واحدة، كان رواية من روايات العصور الوسطى التي لا نهاية لها. وضع الفرنجة تعقّد لدرجة، أنه هدّد بفشل الحملة الصليبية بمجملها. المدينة انتزعت في اللحظة الأخيرة بفضل خيانة أحد سكانها، الذي يدعى فيروز، صانع دروع، خانته زوجته واستعر فيه تعطش الانتقام. فتح ليلا ً أحد أبواب المدينة للمحاصرين. حداد شرقي ساعد الصليبيين على تفادي الانهيار...

الصليبيون ــ أكلة لحوم البشر!

بقية جيش الفرنجة انطلقت في طريقها من جديد، ولاحقا ً في عام 1098 م في مناطق سوريا المعاصرة وقعت الأحداث التي غالبا ً ما حُكيت أكثر من غيرها، تذكروها، وتناقلوها من فم إلى فم، ونظموا الأشعار فيها طيلة العصور الوسطى وحتى عصر النهضة. كان ذلك في مدينة معرة النعمان، التي احتملت الهجوم الأول، وفي النهاية، سقطت في 12 ديسمبر، والصليبيون أبادوا آلاف من الأتراك ومن سكان المدينة.

هذا الغزو الجديد وتقاسم الغنائم أشعل المنافسة ين الزعماء. الكثير منهم كانوا مشغولين بإقامة ممالكهم الخاصة، أكثر من تحرير بيت المقدس. هم تنافسوا على حق ملكية المدينة. وآنذاك نشب في أوساط الفقراء سخط مدمر لا يرحم . سخط ديني. أولئك الفقراء الجوعى، الذين هاموا في طرقات معرة النعمان، والذين لم يلتفت إليهم أحد. معدمون وأنصاف مجانين متشردون أثاروا تمردا رهيبا ً، استمر عدة أيام. هل هذا تمرد مجانين ؟ ليس بالضبط. الحجاج بدأوا بشكل منظم في تدمير المدينة التي استولوا عليها منذ وقت قريب من أجل إعادة البارونات إلى اتجاه بيت المقدس. دمروا التحصينات، أحرقوا البيوت، حطموا الأسوار... كان من الضروري تحطيم كل شيء يغري الزعماء الجشعين.

في النهاية نال الفقراء مبتغاهم. هذه هي الحملة الصليبية الأولى. على النقيض من الحملات التي أعقبتها، احتفظت في الأغلب بغموضها. لكن آنذاك حدث ما يملأ الشرق حتى الوقت الحالي رعبا ً وفزعا ً. في جحيم معرة النعمان، في أسر الرعب والجوع والعطش، في ذلك الوقت، حين اقتسم البارونات الزعماء الغنائم، الفقراء وطوائفهم لجأوا إلى المحرم في كل مكان: إلى أكل لحوم البشر. جثث المسلمين الملقاة في الخنادق، قُطّعت وبنهم أكلت!. المؤرخ راؤول دي كان كتب: " أصحابنا طبخوا البالغين من الكفار في القدور، وغرسوا الخوازيق في الأطفال وقاموا بشويهم". هذه الحادثة زرعت الرعب في كل العالم الإسلامي، كثير من المدن العربية استسلمت بعدها دون مقاومة. وعلى الرغم من أن هذه الجريمة في تاريخ الحملات الصليبية لم تكن بهذا القدر من الأهمية! إلا أنها الآن تقرن بإحكام بها.

المذابح الدموية في بيت المقدس

المعركة الكبرى الأخيرة كانت بالقرب من بيت المقدس وعنها يتذكرون أيضا ً حتى الآن. بعد حصار شهور في يونيو عام 1099م أُنتزعت الأرض المقدسة، وانتشر الصليبيون في المدينة مخمورين من الرعب ومن تراكم الانتظار، يتعقبون ويقتلون المسلمين واليهود، الذين كانوا في ذلك الوقت حلفاء!. في البداية في أزقة بيت المقدس، وبعد ذلك في الجامع الأقصى أو في معبد سليمان. يكتب غيوم دي تير: " المدينة مثلت منظرا ً مهولا ً ومرعبا ً للعدو المُعذّب، لدرجة أن المنتصرين أنفسهم كانوا أسرى للرعب وللاشمئزاز". كتاب " سفر التاريخ المجهول"، النص اللاتيني المعروف الذي يبقى أهم المصادر التاريخية مصداقية، يستخدم تصويرا ً يخلده التاريخ.، نص، أنه في المسجد الأقصى " أصحابنا مشوا في الدم حتى الكعب". مصادر أخرى لذلك التاريخ تتحدث عن جبال من الجثث، التي اشتعلت " أسبوعا ً كاملا ً" تحت أسوار المدينة. كم كان عدد القتلى؟ تتحدث المصادر العربية عن 000 70 . عدد مستحيل. من الممكن أن يكون العدد 20000! !.

بعض بارونات الفرنجة، كانكريد أو ريمون دي سين ـ جيل ، حاولوا اجتناب المجزرة، عبثا ً. الفرنجة المتوحشون في المساءات سعوا مخمورين إلى تابوت العهد، وتمددوا هناك ساجدين، صالبين أيديهم". يمكن مشاهدة الصلبان في أحد الأضرحة حتى اليوم، نقشت في الحجر. هكذا هي العقيدة يمكن أن تحرم من العقل، و بيت المقدس اليوم يعلم ذلك أفضل من أي مدينة أخرى في العالم.

ترجمة عن اللغة الروسية
د. محمد الطاهر الحفيان


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...