2009/11/14

وُجودية الطفولة

فيكتور بيليفين*
ترجمة: د.محمد الطاهر الحفيان

من المعتاد أن يكون آسرا ً جدا ًما يحدث معك الآن، ما يجعلك هكذا فجأة تبدأ في تذكّر الطفولة. في العموم حياة الإنسان البالغ مكتفية بذاتها و ـ كيف يمكن التعبير عن ذلك ـ ليس لها حيّز، يمكن أن يسع معاناتها، التي لا رابط مباشر لها بما حولها.
أحيانا في الصباح الباكر بالأخص، عندما تستيقظ وترى أمامك شيئا بسيطا ً ما جداً ـ ولو كان ذلك حائط طوب، تتذكر أنه في السابق كان بشكل آخر، ليس كما هو اليوم، بالرغم من أنه لم يتغير بتاتا ً حتى هذه اللحظة.
ها هي الصدوع بين الطوبتين ـ تُرى فيهما مستطيلات الاسمنت المتجمدة، مائلة من ضغط تراصف الحجارة. إذ لم تُحسب تلك السنوات، عندما كنت تنام، مضطجعا وساقاك في الجهة الأخرى للتنويع، أو ذلك الزمن البعيد تماما، عندما ابتعدت الرأس بالتدريج عن الأقدام، والمشهد الصباحي على الحائط تعرّض لإزاحة قليلة يومية ـ إذا لم تأخذ في الاعتبار كل هذا، فان هذه الصدوع الرأسية المتجعدة بين قطع الطوب كانت دوما ً أول تحية صباحية من العالم الفسيح الذي نعيش فيه، شتاءا عندما تشبعت الجدران برودة، حتى تغطت أحيانا ً بحسن مدهش لطبقة فضية، وصيفا ً، عندما ظهرت بقعة شمسية بحواشي غير مستوية على الطوبتين أعلى الجدار (يحدث ذلك لبعض الأيام قي يونيو فقط، عندما تمتد الشمس بعيدا ً إلى الغرب بقدر كاف). لكن الأشياء المحيطة، خلال زمن رحلتي الطويلة من الماضي إلى الحاضر، فقدت شيئا ً أساسيا ًـ شيئا ً ما بمواصفات لا يمكن تحديدها، بل لا يمكن تفسيرها. مثلا ً، بماذا بدأ في السابق اليوم: الكبار ذهبوا إلى العمل، وانصفق الباب وراءهم، وكل الاتساع المحيط، كل الأشياء الكثيرة اللامتناهية والأماكن أصبحت لك. وكل الممنوعات توقفت عن العمل، والأشياء كما لو أنها ارتخت وتوقفت عن الكتمان . أخْذُ ما يحلو ـ المعتاد العادي، ولو الاستلقاء على المصطبة المزدوجة ـ في الأعلى، في الأسفل ـ لا يهم: ثلاث لوحات متوازية، شريط حديدي بالعرض من تحت، وعلى كل شريط منها ثلاثة مسامير ناتئة. و إذا ما استلقى ولو إنسان بالغ واحد بالجوار، أقسم، بدا المكان كما لو أنه انكمش وصار ضيقا ً وغير مريح. وعندما خرجوا إلى العمل، خُيّل كما لو أنه أصبح أكثر اتساعا ً، و صار بالإمكان الاستلقاء عليه براحة أكبر. وكل لوحة من الألواح ـ آنذاك كانت لم تُطل بعد ـ ملئت بالزخارف، التي صارت حلقاتها السنوية منظورة، تلك الحلقات المقطوعة في وقت ما بالمنشار فوق الأركان غير الممكنة بتاتا ً. كما لو أنها في غياب الكبار اختفت، أو ببساطة لم يخطر في البال الانتباه إلى هذه الأشياء بمصاحبة أحاديث ثقيلة عن تقلّب القواعد، والموت القريب.

الشيء الأكثر إدهاشا ً، بالطبع، هذه الشمس. الأهم ـ ليس حتى البقعة الساطعة التي تعمي البصر في السماء، بل أشرطة الهواء السائرة من النافذة، والتي تعلق بها ذرات الغبار والشعيرات المخفية الدقيقة. حركتها المستديرة والسابحة( في الطفولة، بالمناسبة، تَرَىَ سيلها من بعيد بوضوح مدهش)، تبدأ في الظهور، كما لو أنه يوجد بها عالم مميز صغير، يعيش بقانونه الخاص، وكما لو أنك بنفسك في زمن ما عشت في هذا العالم، أو كما لو كان بامكانك أيضا ًالوصول إلى هناك لتصبح نقطة سابحة لامعة. ومرة أخرى: في الواقع لا يُخيل إليك هذا، لكن لا يمكن قول غير ذلك، يمكنك فقط أن تحوم بالقرب. ببساطة تَرَىَ حولك مناطق مستترة مليئة بالحرية والسعادة. للشمس قدرة مدهشة تُبرز، في الأشياء القليلة، التي يمكن أن تلامسها، قادمة من جهة النافذة الأولى العليا إلى الجهة السفلية للنافذة الثانية، أفضل ما فيها. وحتى لوحة الباب الحديدية تخبر بمعنى ما عن نفسها، ما تفهمه ـ لا يستحق الخوف، ما يمكن أن يظهر منها. نعم وفي العموم لا شيء يخيف، يقولون لا يوجد شيءٌ أقسى في العالم من أشرطة الضوء على الأرض وعلى الجدران. على كل حال، حتى ذاك الوقت، ريثما هذا العالم يتحدث معك، بعد ذلك، بدءاً من لحظة ما مبهمة، يشرع بالحديث إليك.

من المعتاد في الطفولة أن تفيق على شتائم الكبار الصباحية. هم دائما يبدأون اليوم بالشتائم، عبر الحلم المستمر، حديثهم يبدو للغرابة مسهبا دبقا ً، تُحس بشكل جلي بنبراتهم، هذا الذي يصرخ، وذاك الذي يتعذر، كلهم في الحقيقة لا يشعرون بتلك الأحاسيس، التي يحاولون التعبير عنها بأصواتهم. هم أيضا ببساطة استيقظوا منذ قليل، و لم يفيقوا تماما ً من المدهش في الحلم ـ رغم أنهم لا يتذكرون شيئا ً بعد ـ ويحاولون بأسرع ما يمكن إقناع أنفسهم والآخرين، بأن، الصباح، الحياة، لحظات التهيؤـ كل هذا حقيقة واقعة. وعندما لا يتمكنون من ذلك، يتحركون متشابكين بعضهم ببعض. الشكوك الصباحية الأخيرة تختفي، وهم يحاولون الآن العثور في الجحيم، من حيث غادروا منذ قليل باندفاعة كبيرة، على مكان أكثر راحة. ومن الشتائم ينتقلون إلى المُزاح. وصار المصير المشترك الذي يجمعهم، قليل الأهمية بما أنه توجد اختلافات ذات حد أدنى، تلك التي تعلّموا رؤيتها، والآن غير مهم، أنهم جميعا ً هنا سَيَنفَقُون، المهم، أن واحدا ً ينام في الأعلى بعيدا ً عن النافذة. الأهم، أنك تفهم كل هذا مذ كنت صغيرا ً جدا ً، عندما لم تكن تقدر على التعبير ولا بأي حال عن ذلك علنا ً، تفهم ذلك من أصوات الكبار التي تطير إليك من خلال النعاس الصباحي. ويبدو هذا مدهشا وغريبا ـ لكن آنذاك كل العالم كان ما يزال مدهشا ً، وكل ما فيه غريبا ً. وفيما بعد صاروا يدعونك للنهوض مع الآخرين.

في البداية الكبار ينحنون من مكان ما من الأعلى يُقربون إليك وجها منبسطا ً في ابتسامة. يظهر أنه ينشط في العالم قانون، يجبرهم على الابتسامة، تتوجه إليك، ابتسامة، تبدو، متكلّفة، لكنك تعرف: لا يجب عليهم أن يسيئوا إليك. لهم وجوه قبيحة: مُجعّدة، مُبقّّعة، مُشعّرة. بشكل ما تشبه القمر في النافذة ـ وهي هكذا كثير من التفاصيل. الكبار واضحون جدا ً، لكن لا يمكن قول أي شيء عنهم تقريبا ً. يحدث مرارا ً، بدناءة، أن تتوجه نظرة اهتمام ثاقبة منهم نحو حياتك. هم، كما يبدو، لا يطلبون شيئا ً: لثانية يُنزلون جذعا ً غير مرئيا ً، يحملونه طيلة الحياة، كي ينحنوا عليك بابتسامة، وبعد ذلك، يستوون، يأخذون الجذع مرة أخرى ويحملونه إلى الأمام ـ لكن هذا من اللمحة الأولى فقط. في الحقيقة هم يريدون أن تصبح، مثلهم بهذه الصورة، هم يحتاجون، قبل الموت، أن ينقلوا لأحد الجذع، فهم لم يحملوه عبثا ً. في الأمسيات يتحلّقون مجموعات متفرقة ويضربون واحدا ً ـ هذا الذي يُضرب، في العادة بشكل مُقنع، يُوهم أولئك الذين يضربونه بتألمه الشديد، ولأجل ذلك يضربونه أضعف بعض الشيء. في الغالب، هم لا يسمحون بمشاهدة ذلك، لكن يمكن التخفي دائما ً بين الأسّرة المزدوجة والتلصص على كل شيء من خلال شق بين الألواح قياسه سنتمتر. وبعد ذلك ـ وعلى الرغم من أنه منذ اللحظة التي اختبأت فيها، تشاهد كل المراسم، إلى وقت حدوث التالي ما يزال بعيداـ لاحقا ً للمرّة الأولى سيحل اليوم، الذي ستتلوّى فيه أنت نفسك على الأرض ما بين الأرجل الطيارة في الأحذية الثقيلة وفي الجزمات الصوفية، محاولا ً إيهام من يضربك بآلامك المبرحة.

حين تبدأ في القراءة، النص لا يوجه أفكارك، بل أفكارك نفسها توجه النص أكثر. الانقطاع يمر دائما بأكثر الأماكن إمتاعا ً، وإذا ما علمت من قصاصة صحيفة، كيف استقبلت الصالة بالتصفيق رفاق هذا أو ذاك، تبدأ في التفكير، إن هذين الاثنين مهمان جدا ً بين الناس طالما أنه حتى رفاقهم يُستقبلونهما بطريقة خاصة بمثل هذا التصفيق. وهكذا تُغلق عينيك وتبدأ في تخيل هؤلاء الرفاق وهذا التصفيق، وتنجح في عبور حياة صغيرة كاملة، خفيّة تماما عن الجالس على بالوعة الخراء المجاورة لبالوعتك. وكل هذا بفعل قصاصة صحيفة بحجم جهة من علبة شاي، مطبوع عليها أثر حذاء. وإذا ما وقعت اليدان على كتاب حقيقي، فان ذلك لا يمكن مقارنته بأي شيء آخر. غير مهم ما هو ـ فالكتب هنا قليلة جدا، خمسة أو ستة، وتقرأ كل منها عدة مرات ـ وغير مهم، لأنك في كل مرة تقرأ الكتاب بشكل آخر. في البداية عادة ما تجد فيها كلمات هامة في حدَ ذاتها، وراء كل منها يبرق بسرعة ما تعنيه("جزمة"، "خراء"، "معطف")، أو تنفرج عنها كلمات محبّرة بلا معنى (" وجودية"، "مثقف")، ومن الضرورة الذهاب إلى أحد ما من الكبار، الأمر الذي ترغب دائما ً في تفاديه، والذي يجعل الوجودية تصير مصباحا يدويا، والمثقف: أداة ً طويلةً متحركةً يمكن تبديل رأسها. في المرة التالية تهتم بمعرفة حالات كاملة: كواحد، بخطوات ثقيلة، يدخل إلى مطبخ نتن وضيق وبقبضتين متمرستين قويتين يهشّم تماما ً الوجه المتكلّف والقبيح للنادل بروشكا. لا يوجد بالغٌ واحد، لم يقرأ هذا الكتاب، وفي كل مرة، الذين يجتمعون حول الضحية التالية في دائرة معتادة لاهثة بوجوه عفنة، يقومون بالدور بخطوة صغيرة إلى الأمام ولثانيةٍ يصبح عادلا هذا الشاب العامل أرتيوم الذي يُودع في ضربة كل كراهيته للتكلّف ولمهنة الخدم، التي تتقلّب في الوسط. ربما، لا توجد ولا عملية ضرب واحدة، لا تحتفي بها العدالة. وبعد ذلك ـ في المرة الثالثة ـ تجد وصف فتاة تتنفّس بحرارة في السرير العلوي، ولا تلاحظ إلا هذا. من الضروري أن تكبر تماما ً، كي تفهم إلى أي مدى مُشين وغير ممتع كل ما وُفقت في قراءته عدة مرات.

أنت سعيدٌ في الطفولة لأنك تفكّر هكذا متذكرا ً إياها. في العموم السعادة: هي الذكريات. عندما كنت صغيرا ً، سمحوا لك بالتنزه طيلة اليوم، وكان يمكن التمشي في كل الممرات، وأن تتمتع بالنظر حيثما تشاء والتسكع في الأمكنة ذاتها، حيث يمكنك أن تصبح أول إنسان يطأها بعد البُناة. الآن أصبحت ذكريات محفوظة بإحكام، وآنذاك كانت ليس إلا: أن تمشي في الممر وتكتئب، لأن الشتاء يبتدئ من جديد خلف النافذة، سيكون كل الوقت معتما ً تقريبا ً، ستدور على عقبيك لأي طارئ، تنتظر طالما كبشان يصخبان في الممر الملاصق مغادرين يوزعان الشتائم، ولمرة أخرى تنحرف إلى الباب، الذي كان دائما ً مغلقا ً، واليوم هو فجأةً مفتوحا ً على مصراعيه. شيء ما يلمع في نهاية الممر. اتضح أنه على طول الجدار هنا يمر أنبوبان سمينان مغطيان بالجص وبطبقة من الجير. وفي النهاية، يُرى هناك ضوءٌ وقفلٌ حديدي مرمي في الأسفل وشيءٌ ما يهدر، وحينما تنحني بحذر على القفل، ترى آلة ضخمة زرقاء اللّون، قليلا ًـ قليلا ً تهتز وتطن، ووراءها اثنتان أخريتان مثلها، ولا أحد بالجوار: يمكن على الأقل الآن النزول بالسلالم لتجد نفسك في هذا المكان السحري، الذي يرتعد من القوى المتجمعة هنا. أنت لا تفعل هذا فقط، لأنه من وراء ظهرك يمكنهم في أية لحظة غلق الباب، وتمضي إلى الوراء، حالما ً بالعودة إلى هنا في وقت ما مرة أخرى. بعد ذلك، عندما تبدأ في العودة إلى هنا كل يوم، عندما تصبح الرعاية والاهتمام بهذه السلاحف الآلية، التي لا تنام أبدا، الهدف الأسمى لحياتك، غالبا ما تدفعك لتذكر، كيف رأيتها في أول مرة. لكن الذكريات تُمحى، إذا استعملت بشكل دائم، لذلك تتمسك بهذه ـ يا للسعادة ـ كاحتياط.

الذكرى الأخرى، والتي لا تستحضرها تقريبا ً، مرتبطة أيضا ً بإخضاع الاتساعات الرحابة. يبدو لي أن هذا كان في السابق: أحد جوانب الممر، في يوم شتوي(النوافذ تشوبها الزرقة: تبدأ في الإظلام)، صمتٌ في كل أرجاء البناية الضخمةـ الكل في العمل. يبدو أنه لا يوجد أحد فعلا ً ـ هذا مرئي من خلال مظهر الأشياء المحيطة. الكبار يخونون المحيطين بهم، والآن الممر المعتم غامض على غير العادة، الكل في ظلال ماـ إلى درجة الرعب. لم يطفئوا الضوء بعد، لكنهم يجب أن يفعلوا ذلك قريبا ً جداً، ومن الممكن أن تسمح لنفسك بمتعة نادرة هي الجري. في البداية تكتسب سرعة من لوحة تعليمات الحريق في زقاق الممر (لوحة إعلانات غريبة جدا ًـ مرسوم عليها بالأصباغ الزيتية فأس، وكُلاًّب وسطل)، لبعض الوقت تمضي في الممر المتعرج، تستمتع بالحرية والخفة، التي يمكنك بها أن تجعل الجدار ينحني، تقترب وتبتعد ـ وكل ذلك ناتج عن الأوامر الضئيلة، التي تُلقيها على جسدك. لكن الأكثر إدهاشاً، طبعا،ـ هذا المنعطف إلى اليمين، في ذيل الممر القصير، الذي ينتهي بنافذة تغطيها أسلاك الناموسية. من مسافة عشرين مترا إلى الزاوية تلتصق بالجهة اليسرى للجدار، وعندما يتلألأ في الجهة المقابلة مصباح الباب بتوقيع ب ك ـ15 ش، تتملّص من الحائط وتُشكّل بحركتك قوسا ً طويلا ً، انحنى بحدة نحو اليمين ـ وهاهي ذي بضعة ثواني، استرخى جنبك الأيمن تقريبا ً على بلاط الأرضية، هذه الثواني تعطي حريةً لا شيء يُقارن بها. بعد ذلك تقطع بسهولة بقية الممر طائرا ً، واضعا ً أصابعك في خلايا الناموسية، تتطلع من النافذة: حلّ الظلام، وفوق السياج، على الأعمدة التي تتراءى عليها قبعات فرو ثلجية مرتفعة، تضئ بعض المصابيح الزرقاء الباردة.

الأصوات، المنبعثة من النافذة، لها طبيعة أخرى مختلفة تماما ً، عن تلك التي تولد في مكان ما من الممر أو من خلف حاجز. الاختلاف ليس فقط في خصائص الصوت نفسه ـ مرتفع أو منخفض، بل أكثر من ذلك بما يوحي به. تقريبا كل الأصوات ينتجها البشر، لكن تلك التي تنشأ في داخل مبنى ضخم، تُدرك مثل قرقرة في المصارين أو قرقعة مفاصل الجسم ـ مختصر القول، لا تلفت الانتباه بسبب اعتيادها وتبريرها. أما كونها تطير على جناح السرعة من خلال النافذة، فتقريباً ذلك هو الدليل الوحيد لجود بقية كل العالم، وكل صوت من هناك يبدو مهما ً بشكل غير عادي. خارطة العالم الصوتية أيضا نجحت في التغّيُر الشديد منذ زمن الطفولة، على الرغم من أن مكوناتها الأساسية واحدة. هذا هو قانون الصوت العادي: أصوات بعيدة لضربات قطعة حديد على أخرى، مقارنة بالنبض ـ أقل تسارعا ً مرتين أو ثلاث. لها صدى ممتع جدا ً: يُخيّل، أن الصوت يتداعى ليس من نقطة واحدة، بل من كل قوس الأفق مرة واحدة. الصوت أول مرة، الذي نتج عن هذه المعركة،ـ ما يزال في تلك الأزمنة، عندما كان في الإمكان النوم بعد الاستيقاظ العام، هذا هو مدرّج الوقت أو حتى نقطة الإرتكاز الخارجية، بالنسبة إلى الفرز المسائي وإلى معركة لطم الوجوه الصباحية للكبار الذين اكتسبوا الامتداد والتتابع المناسب. في وقت لاحق هذا الصوت الموزون تحوّل إلى دقات قلب العالم، وصار كذلك حتى اللحظة قبل أن يقول أحدهم، إن هذا الطرق لتثبيت ركائز الأساسات في منطقة البناء. من بين الأصوات التي يمكن تمييزها طنين سيارات بعيدة، زعيق ـ عواء قاطرة بخارية مناوِرة في محطة فرز وتصنيف البضائع، أصوات وضحكات (في الغالب طفولية)، أزيز الطائرات في السماء(فيه شيء ما غابر)، ضجيج، ولّدته الريح، وفي النهاية عواء الكلاب. يقولون، إنه في وقت ما وُجدت طريقة للاتصال بنزيل الزنزانة المجاورة(في الزنزانات وُضع كل نزيل على حدة ـ حتى إمكانية ذلك لا تُصدق): نزيل الزنزانة الأولى بدأ بطريقة محددة الطرق على الجدار، شفّر في تتابع ضربات رسالته، ومن الزنزانة المجاورة، باستخدام نفس الإشارات أتته الإجابة. هذا، يبدو، كخرافةـ أي معنى لإعداد لغة خاصة، عندما يمكن بطلاقة التحدث عن كل شيء باللقاء في أماكن العمل؟ لكن المهم الفكرة ـ نقل اللب من خلال المزيج نفسه الذي لا معنى له، مثل الضربات السارية من خلال الجدران. أحيانا تُفكرـ إذا ما أراد خالقنا أن يتواصل معنا بالطرق مرة أخرى، ما الذي سنسمعه؟ من المحتمل، أن نسمع شيئا ً كالضربات البعيدة للركائز، على التربة القاسية،ـ حتما من خلال فواصل منتظمة، وإشارات مورس هنا لا تناسب ذلك.

كلما ازداد عمرك، كلما كان هذا العالم أكثر تعقيدا ً، وعلى كل حال توجد فيه أشياء كثيرة غير مفهومة. أخْذُ ولو مربعين من السماء على الجدار ( السماء، إذا ما جلست على المصطبة السفلية، ومن المصطبة العليا تبدو أيضا قمم الأنابيب الضخمة). ليلا ً تظهر فيها النجوم، ونهارا ًـ غيوم، تستثير كثيرا ً من الأسئلة. غيوم ترافقك منذ الطفولة البعيدة، وهي ولدت للتو في النوافذ، الأمر الذي تندهشُ له في كل مرة، مستقبلا ً شيئا ً جديدا ً. ها هو لون وردي واسع يتدلى الآن مثلا ً على يمين النافذة (اقْتَرَبَ جدا وقت الغروب) مروحة من أشرطة وبرية كثيرة ـ كما لو كانت من كل الطيران العالمي (بالمناسبة، من الممتع، معرفة كيف يرى العالم أولئك الذين يقضون مددهم في السماوات)، وعلى يمين السماء ببساطة أسطر مائلة مرسومة. الحاصل أن هذه النقطة اللانهائية البعيدة، اليوم، من حيث تهب الريح، تقع بالضبط مقابلة لجهة النافذة اليمنى. من المؤكد أن هذا يعني شيئا ً، ولكن الإشارة ببساطة غير معلومة لك ـ هذا هو، التطارق مع الرب. هنا لا تخطئ. بالضبط لا تخطئ أيضا معنى ما يحدث، عندما تظهر في غيوم نوفمبر الخرساء بقعة باهتة الحدود، على شكل مثلث غير منتظم شاحب(أنت قد رايتها صباح صيف على القرميد قرب وجهك)، ومن مركزه من خلال شرائط الضباب الطائرة المسرعة تشرق الشمس. أوـ صيفاـ تل أحمر، في منتصف السماء على الأفق(تراه من المصطبة العلوية). سابقا وُجدت أشياءٌ كثيرةٌ وحوادثُ، مستعدة للبوح بطبيعتها الأصلية لنظرتك الأولى ـ في الحقيقة، بكل شيء تقريبا. عندما مرّت بالأيدي صورة السجن، أُخذت من الخارج(من المفترض من برج الحراسة فوق منطقة مصنع الحلويات)، كان غير مفهوم، ما الذي صدم المعتقلين القدماء، هل يعقل أن لا يكون في حياتهم شيئا ً أكثر إدهاشا ً؟ قطعة تورت سيئة أبدية، عفونة معتادة من الخراء والعزة الكسولة وراء القدرات العقلية الإنسانية. ويمكن التطارق مع الرب. إذ أن الإجابة عليه ـ تعني ببساطة الإحساس وفهم كل هذا. وهكذا تفكر في طفولتك، عندما كان العالم ما يزال يُبنى من الأشياء البسيطة المتشابهة. فقط بعد ذلك تفهم، إن التحدث مع الرب ممنوع، لأنك أنت نفسك صوته، بالتدريج كل شيء يصبح، اخرسا ً وأبكما ً أكثر. إذا ما تأملت، يحدث هذا معك تقريبا، بصراخ شخص، طار إليك من الفناء، حيث يلعبون الكرة.

شيءٌ ما حدث للعالم، حيث شبَّبتَ، ـ في كل يوم تغيّر طولك شيئا ً فشيئا ً، كل ما حولك في كل يوم اكتسب ظلال معنى. ابتدأ كل شيء من أكثر الأماكن شمسية وسعادة على الأرض، حيث يعيش أناس مضحكون بعض الشيء في ارتباطهم بنعال رديئة الصنع ومعاطف قطن رخيصة ـ مضحكون وعلاوة على ذلك أرحام لنا; ابتدأ من المماشي الخضراء المُبهجة، بلعبة الشمس المرحة على شبكة الناموسية المنسلخة، بشقشقة الخطاف اليائسة، الذي بنى لنفسه عشا ًعلى سطح ورشة الصفيح، مع هدير عيد يزحف في استعراض الدبابات ـ على الرغم من أنها لا تُرى من خلف الحاجز، إلا أنك ُتجيد من الصوت تحديد، متى تمر الدبابة، ومتى تمر العربة الذاتية; بضحك الكبار الودود، وهم يستقبلون بعضا ً من أسئلتك; بابتسامة الحارس تصطدم بك في الممر; بهزهزة ذيل كلب شرس ضخم يجري في اتجاهك. بعد ذلك يبهت الأفضل قليلا ً قليلا ً: تبدأ في ملاحظة تشققات على الجدران، عفونة ثقيلة من القسم الغذائي، مُزعجة بكونها يومية تحديدا; تبدأ بالحدس بوجود حياة ما حتى وراء السياج الأخوي ذي الملاط الطري على حُفر الحائط ـ في العموم، في كل يوم جديد، أسئلة اقل تبقى بدون إجابة بخصوص مصيرك الحقيقي. وكلما بقيّ مصيرك أقل تكتما ً عنك، كلما كان عدد أقل من الكبار ميالين إلى غفران نظافتك وسذاجتك! الحاصل، إن رؤية هذا العالم ببساطة تعني التلوث والمشاركة في كل سفالاته ـ وفي الأمسيات في نهايات الممر وفي زوايا الزنزانات المعتمة تحدث عادة كثير من الشنائع. وها هو ينكشف، من ميوعة الضباب الذي ينسى الطفولة، كما في خدعة غير مرئية، إدراكك إنك ولدت وكبرت في السجن، في أوسخ وأنتن زوايا العالم. حينها تفهم نهائيا إن قوانين سجنك تبدأ تسري عليك بحذافيرها. لكن ما الذي سيحدث جرّاء ذلك ؟ القضية هي أن العالم لم يبتدعه الناس ـ مهما حاولوا، ليس في مقدورهم جعل حياة السجين الأخير ولو بمقدار صغير أحسن من حياة رئيس القسم الاقتصادي نفسه. وما الفرق، الذي يُعتبر حُجة، إذا كان مكتسبي السعادة الروحية وحيدين؟ توجد قواعد للسعادة المُقدَّرة على لإنسان في الحياة، ومهما حدث، فهذه السعادة لا يمكن نزعها. يمكن، القول عن الشيء، انه حسن أو سيئ، إذا عرفت على الأقل، لماذا ولأي شيء صمم الإنسان.

المواد لا تتغير، لكن شيء ما يختفي، وأنت ما تزال تنمو. في واقع الأمر "شيء ما" تفقد، بلا عودة، تمر كل يوم بمحاذاة الشيء الأكثر جوهرية، تطير إلى مكان ما أسفل ـ وممنوع التوقف، ممنوع الكف عن السقوط ببطء في اللاقرار ـ يمكن فقط انتقاء الكلمات، التي تصف ما يحدث لك. إمكانية النظر إلى النافذة ـ ليس شيئا أساسيا ً في الحياة، لكن مع ذلك تتكدّر، حين يتوقفون عن إخراجك في الممر ـ هكذا وقد شببت تقريبا تستلم استعداداً للعيد جزمة عالية ومعطفا ً قطنيا ً. لا يبقى من كثيرٍ من المناظر الشاملة المُتاحة للاستعمال الدائم في وقت ما، إلا منظر واحد (من النافذتين، تحت قليل من الاختلاف في الزوايا، يُرى الشيء نفسه)، يمكن التفرّج عليه فقط، عندما تسند الدكة إلى الجدار وتقف على حاشيتها: الفناء محاط بسياج غير مرتفع من الخرسانة، باصان صدئان ـ الأصح بقاياهما، يشبهان دبورين ميتين،ـ غلافان أصفران فارغان من الداخل; بناية طويلة مجاورة للسجن تحت سقف نصف دائري; أبعد من ذلك تبدأ السماء والزنزانات البعيدة الأخرى، التي تشغل الجزء المتبقي من زوايا الكوة الأربع. أي أن ما تشاهده في كل يوم لسنوات طويلة، بالتدريج يتحوّل إلى تمثال لك ـ يُظهر بأية حالة كُنتَ في زمن ما، ـ لأنه يحمل في ذاته بصمات الشعور لإنسان مختف تقريبا ً، والذي يظهر فيك لبعض اللحظات، عندما تنظر إلى الشيء نفسه، الذي رآه هو في زمن ما. المشاهدة ـ في حقيقة الأمر تعني ترك روحك في بصمة قياسية على شبكية عيني إنسان قياسي. سابقا في هذا الفناء لعبوا كرة القدم، سقطوا، قاموا، قذفوا الكرة، والآن يبقى فقط الباصان الصدئان. في الواقع منذ ذلك الوقت، حينما بدأت التردد على العمل الجماعي، كنت تُجهد نفسك كثيرا، كي تعيد الحياة ولو لشيء ما في الداخل، قادر على لعب كرة القدم على شبكتي عينيك. لكن مهما انتَظَرتْ عملية تبديل أغطية الأسرة العامة في الآتي، فلا أحد يسلب من ماض، رآه أحد (أنت في الماضي، إذا ما عنى ذلك شيئا ً) ترى وأنت تقف على الدكة المتدحرجة وتتطلّع من النافذة: بضعة أفراد يتقاذفون الكرة فيما بينهم، يتضاحكون ـ أصواتهم وضربات الأرجل على الجلد تصل بعد قليل من التأخير; فجأة يمرق واحد إلى الأمام ـ عليه غلالة خضراء،ـ يدفع الكرة إلى مرمى تتألف من إطارين قديمين، يقذف، يصيب الهدف، يختفي من المشهد ـ وتتصاعد صرخات اللاعبين، ويا للعجب، في هذه الزنزانة نفسها عاش في وقت ما سجين صغير، تَرَىَ كل هذا، والآن لم يعد موجودا ً. من الواضح، الفرار ممكن أحيانا ً، لكن فقط في سرية تامة، ولا أحد يعرف أين يتوارى الفار، حتى هو نفسه.
_______________________________________

* فيكتور أليغافيتش بيليفين: ولد في عام 1962 م في موسكو. له عدة روايات منها "حياة الحشرات"، و" تشابايف والخواء"، و"جدلية الحقبة المنصرفة: من لا حيث إلى لا أين" وغيرها. كما له عدة مجموعات قصصية.(المُترجم)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...