حلّ القذافي مسألة الهُوية الأمازيغية بشكل جذري، وفق طريقته المعتادة القطعية، من خلال الجزم بأن "البربر" هم عربٌ أقحاح أتوا من اليمن في هجرات قديمة.
تبعًا لهذا المنطق، وجد الأمازيغ الليبيون أنفسهم في دولة القذافي الكئيبة محرومين بحكم القانون من مجرد إطلاق أسمائهم الخاصة على ذريتهم كي يذوبوا ويندمجوا في نسيج اجتماعي، أراد له الزعيم أن يكون بلون واحد ومن دون أي خيوط تشذ عن طرازه العربي "الأصيل".
وهكذا، عاش الأمازيغ بهوية قسرية طيلة عقود، لكنهم بالطبع ظلوا (أمازيغ) في بيوتهم وفي بلداتهم وفي عاداتهم وفي أذواقهم وفي أحاسيسهم، بل زاد هذا النفي من تمسكهم بهويتهم التي توارثوها منذ آلاف السنين، وما كان لقرار مهما كانت سطوته أن يوقف انتماءهم أو يلغيه.
لم تتوقف محاولات القذافي طمس الهوية الأمازيغية عند هذا الحد، بل ذهب بعيدًا في ثمانينات القرن الماضي، إذ حرّض في كلمة له أمام تلاميذ وطلاب إحدى البلدات الأمازيغية على سحل وقتل كل من يشكك في أصلهم العربي ومن دون أي محاكمة، من جانب آخر، دأب ممثلوه في المنظمات الدولية المتخصصة عند مناقشة قضايا الأقليات على إنكار وجود "أمازيغ" أصلاً في ليبيا، متهمين بعض النشطاء الأمازيغ الليبيين الذين يحاولون إثارة هذه القضية، بأنهم أمازيغ من دول مجاورة ينتحلون الهوية الليبية.
رفع الأمازيغ، بعد طي صفحة القذافي، أصواتهم مطالبين بحقوقهم الثقافية الطبيعية، إلا أن الفوضى الأمنية والسياسية التي غرقت في دوامتها البلاد، أعاقت أي حوار عقلاني يمكن من خلاله التفاهم على أسس جديدة للعيش المشترك بين مختلف مكونات المجتمع الليبي.
دار الجدل حول الحقوق الأمازيغية الثقافية في أجواء مشحونة بالتوتر وبالفوضى وبالصراع المحموم على السلطة شأنه في ذلك شأن سائر المناكفات الأخرى الدائرة بين القوى المختلفة في البلاد، مما أدى إلى ظهور مواقف متشددة من الطرفين تعكس غياب ثقافة الحوار الديمقراطي وقيم التسامح والروية في حل مشكلات حساسة كانت لمدة طويلة تعد من المحرمات.
وفي هذا الصدد اتسم موقف المرجعية الدينية الرسمية، متمثلة بالمفتي، من مطلب دسترة اللغة الأمازيغية بالريبة والشك؛ حيث وصف الصادق الغرياني الحراك الأمازيغي بأنه مثل التوجه الفيدرالي شرق البلاد، ثورة مضادة وباب للنزاع.
في الطرف الآخر، ارتفعت أصوات أمازيغية تهدد باللجوء إلى السلاح "دفاعًا" عن حق دسترة اللغة الأمازيغية، وإلى التلويح بالمطالبة بحكم ذاتي مثل أكراد العراق، ما يشير إلى مدى قابلية البعض الصدام، واستعدادهم لاستخدام كل الوسائل بما في ذلك القوة من دون حرج أو تبصر.
مثل هذه النزعات تشير إلى أن الصراعات المفتوحة بمجملها الآن، تتجاوز المطالبة بالحقوق الطبيعية ضمن مشروع عام، يؤسس أرضية قانونية عادلة لحق أساسي هو المواطنة، وتستبدل هذه الأرضية الحاضنة بالعصبية القبلية أو العرقية أو الجهوية ما يهدد السلم الاجتماعي ويزيد من تعقيد أزمتنا الراهنة، وربما يتسبب في مضاعفات كارثية أكثر تفجرًا.
والجدير بالملاحظة أن المطالب الأمازيغية على الرغم من أنها لم تجد آذانًا صاغية، فهي في الوقت نفسه طُرحت بشكل استفزازي مشروط، ولم تكن واضحة بشكل كافٍ، وبخاصة مسألة دسترة اللغة الأمازيغية.
والسؤال الذي لا أجد إجابة له هو، كيف يمكن المطالبة بدسترة لغة لا وجود ماديًا لها، اقتصر استخدامها على التواصل الشفهي زمنًا طويلاً؟
كيف يمكن دسترة لغة تعرضت للطمس مئات السنين، قبل أن يعكف أبناؤها على إحيائها وتشذيبها، واستكمال أركانها وتوحيد معانيها واستنباط قوانينها، والرقي بها إلى مستوى الإنتاج من خلال الإبداع الأدبي والفكري؟
تعرضت اللغة الأمازيغية، كما هو معروف، لظروف تاريخية جعلت منها رهينة "غزو" وحصار ثقافي استمر مئات السنين، الأمر الذي نتج عنه ضمورها وتقلصها وفقدانها أبجديتها الأصلية.
أعادت تلك الظروف التاريخية القاسية تشكيل اللغة الأمازيغية، في" لهجات" متنوعة في مراكز سكانية منعزلة في أرجاء الجبل الغربي وعلى الساحل في زوارة، وفي جنوب البلاد حيث يوجد الطوارق، هذه "اللهجات" تباينت في مفرداتها وفي نطقها من منطقة إلى أخرى، بما في ذلك المتقاربة مكانيًا.
هذه الظروف القسرية التي أحاطت باللغة الأمازيغية لا تمس، بأي حال، حق الأمازيغ الليبيين في نيل حقوقهم الطبيعية كاملة، وبخاصة تعلم لغتهم الأم واستعمالها في كل ما يمكن أن تصلح له، بما في ذلك ترسيمها إذا كانت مؤهلة لمثل هذا الدور، لذا يتوجب على الأمازيغ إثبات ذلك أولاً لأنفسهم، ومن ثم المطالبة بعقلانية بحقوقهم الطبيعية بالطرق السلمية من دون غلو أو اشتراط حتى لا يُخالط الحقَ باطلٌ.