2015/03/14

الدولة وسدنة الفوضى الجدد




 رافق سقوط نظام القذافي الهلامي تلاشي الدولة القائمة وانهيار التوازنات القبلية والجهوية التي تعايشت في نسيج موحد منذ الاستقلال عام 1951.
هذا المصير نُكبت به ليبيا من دون دول "الربيع" العربي الأخرى، ويعود ذلك بصورة خاصة إلى أن القذافي دأب على إضعاف الجيش وتفكيك مؤسسات الإدارة السياسية واستبدالها بأخرى متغيرة ولا فعالية لها، فيما احتفظ في خيمته بسلطات لا حدود لها.
تداعيات اختفاء مؤسسات الدولة الهشة واستشراء الفوضى وتعدد مصادر القرار ومراكز القوى القبلية والأيديولوجية المسلحة في ليبيا تشبه إلى حد كبير ما حصل ولا يزال في الصومال عقب سقوط نظام محمد سياد بري العام 1991، وأيضًا ما حدث في أفغانستان بعد انسحاب القوات السوفييتية.
ساهمت الفوضى العارمة وغياب أجهزة الدولة الأمنية والدفاعية بليبيا في ظهور جماعات متطرفة استحوذت، كما غيرها من القوى، على نصيب من السلاح، وتغلغلت في عدة مدن وقرى شرق البلاد وغربها وجنوبها.
هذه الجماعات، التي كان القذافي طارد عناصرها بلا هوادة، نفذت سلسلة من الاغتيالات في مدينتي بنغازي ودرنة طالت رجال الأمن والجيش والقضاء بهدف الانتقام ممن تعدهم "حرّاسا" لنظام القذافي، ولدرء "خطر" محتمل يمثلونه إذا ما استعادت "الدولة" أنفاسها.
تواصلُ عمليات استهداف عناصر لها علاقة بأجهزة تمثل "هيبة الدولة" شرق ليبيا، وتزايد أساليبها قسوة ودموية، يشير إلى أن هؤلاء حزموا أمرهم على استغلال الفرصة الذهبية المتاحة لإقامة "نعيمهم الأرضي" بقوة الحديد والنار، مثلهم في ذلك مثل القذافي من ناحية الجوهر، وهذه المرة برخصة مقدسة منحوا من خلالها لأنفسهم حق الوصاية الأرضية والسماوية، وبمنهج لا يرى غضاضة في فتح بوابات الجحيم في الدنيا من أجل استحقاق الآخرة.
وفيما تنهمك قوى سياسية بأذرع مسلحة أخرى في الصراع على السلطة من خلال المؤتمر الوطني العام والحكومة الانتقالية تتقوى هذه الجماعات الإسلامية المتطرفة وتعزز صفوفها بـ"جنود" من الداخل والخارج، كما يتزايد نفوذها من خلال فرضها "شريعتها" على سكان مدن وقرى تحت سيطرتها.
واقع الحال يشير إلى أن عدة جماعات بدأت في إقامة "إمارات" محلية غير معلنة، وهي تتسلح وتتدرب لمقاتلة ما ترى أنه محيط كافر.
واقع الحال يشير إلى أن عدة جماعات بدأت في إقامة "إمارات" محلية غير معلنة، وهي تتسلح وتتدرب لمقاتلة ما ترى أنه محيط كافر، وتستغل هذه الجماعات، كما بقية القوى القبلية والجهوية، الفوضى الراهنة بهدف فرض سلطة الأمر الواقع، استعدادًا لأي نزال ضمن معادلة يزداد فيها الفراغ الناتج عن غياب هيبة الدولة، وهو وضع يشبه ما كان سائدًا في أفغانستان عند بروز حركة طالبان.
من جهة أخرى، غياب أجهزة الدولة عن الرقعة الجغرافية الليبية المترامية الأطراف ووجود إمكانيات اقتصادية كبيرة وبيئة حاضنة، جعلت من البلد جنة للمتطرفين، وبخاصة أصحاب التجارب القتالية في أفغانستان وفي الجزائر وفي العراق وفي سورية وفي مصر وماليزيا!
وعلى الرغم من وجود عملية سياسية ترمي إلى بناء مؤسسات للدولة ديموقراطيًا، إلا أن الصراع الحقيقي في ليبيا بحكم طبيعة مجتمعها التاريخية والحضارية يمر عبر القوة لا عبر آليات مسالمة.
من هذا المنطلق، يمكن القول إن الصراع الحقيقي في ليبيا يتشكل الآن بين ما يمكن وصفها بالقوى المناصرة للدولة من إسلاميّين معتدلين وقبليين وغيرهم، وأخرى معادية للدولة يكمن خطر بعضها في أنه يستمد أفكاره المتطرفة من أكثر التنظيمات غلوًا، وهذا البعض يتجاوز في أطروحاته تنظيم القاعدة ليلتحق بركب "داعش".
لا يحظى هذا الصراع فيما يبدو باهتمام كاف على كافة الصعد، وإذا تورطت القوى الإسلامية القريبة من السلطة والقوى القبلية البعيدة عنها في حرب مفتوحة، كما تشير إلى ذلك دلائل عدة، فإن تجربة حركة طالبان في أفغانستان، قد تتكرر في ليبيا باتحاد الجماعات المتطرفة وإجهازها على القوى المنافسة بعد أن تخرج من الحرب الأهلية منهكة.
هذا الاحتمال ترجحه شواهد عدة أهمها ما يظهر من ضيق أفق قيادات متنفذة في صفوف القوى السياسية المسلحة المتصارعة على السلطة، ومن فقر تكوينها السياسي والثقافي كما دلّ على ذلك سلوكها ومواقفها حيال قضايا ما بعد القذافي الملحة.
إذا نجح مثل هذا السيناريو وتمكنت الجماعات المتطرفة من السيطرة على السلطة، فستفتح أنابيب النفط لطمأنة الغرب واتقاء شره، وستغلق البلاد خلف أسوار العزلة وتتفرغ لـ "تقويم" الرعية وإصلاحها بعيدًا عن بدع الغرب وضلالاته.

(مقالة نُشرت في شهر مايو 2014 )

هناك 16 تعليقًا:

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...